الاثنين، 13 ديسمبر 2010

غياب القيادة الوطنية

وظيفة شاغرة

قيادة وطنية

إيهاب السيد

 

لا أذكر عاماً مضى منذ وعيت على الدنيا إلا وسمعت فيه عبارة "القضية تمر في مرحلة خطرة" أو "حساسة". كانت هذه اللازمة التي تبرر اتخاذ الكثير من القرارات والمواقف المثيرة للجدل في أحسن الأحوال، والمضرة بالقضية في أغلب الأحوال. ومللنا تكرار هذه اللازمة وفقدت معناها عند الكثيرين من كثرة ما أسيء استخدامها.

إلا أنني أعتقد أن هذه قد تكون المرة الأولى التي يصدق فيها القول بأن القضية الفلسطينية تمر في إحدى أخطر مراحلها على الإطلاق. مرحلة التصفية النهائية للقضية بمكوناتها من شعب وأرض وتاريخ ونضال. فالخطوط الحمر لم تعد حمراء وإنما رمادية يتم تجاوزها إذا دفع ثمن مناسب (وهو دائماً شخصي وليس وطني) أو إذا مورس ضغط على الشخص المناسب في الوقت المناسب. والشعب الفلسطيني تم تقسيمه ليسهل التعامل معه، فالخارج مهمش بحجة أنه بعيد ولا يعرف ما يجري على الأرض ولا يتحمل معاناة أهل الداخل. وفي الضفة جرى تدجين الناس بثقافة الاستهلاك والعمالة وأموال الدول المانحة والمنظمات غير الحكومية الأجنبية (NGO). وفي غزة رأينا الحصار الأكبر والأسوأ في تاريخ البشرية أملاً في تطويع من صعب على التدجين وتمسك بالمقاومة. وقيل لنا إن الأهل في المناطق المحتلة عام 48 لهم خصوصيتهم ولن نتدخل في شؤونهم (وبالتالي ليس لهم أن يتدخلوا في شؤوننا). وطبعاً تم في كل هذه الساحات ملاحقة كل من يؤمن بفكر المقاومة، مقاومة المشروع الصهيوني القائم على تدمير الإنسان واغتصاب الأرض وسرقة التراث وتزوير التاريخ. وكان كل من يقاوم سواء في الملاحقة، إذ جرت ملاحقة من يقاوم بالفكر تماماً كمن يقاوم بالسلاح، وكان من يقاوم بالقلم والريشة سواء لديهم بمن يقاوم بالمدفع والرشاش.

عدونا الآن لا يسعى للتفاوض، مع عدم اتفاقنا مع مبدأ التفاوض القائم منذ أوسلو وحتى الآن، بل هو يسعى لفرض الاستسلام الكامل والنهائي مصحوباً بالتنازل عن كل الحقوق والاعتذار عن كل الازعاج الذي سببه الفلسطيني للمشروع الصهيوني منذ وصوله أرض فلسطين وحتى اليوم. أليس هذا ما يريده نتنياهو من وراء اصراره على إجراء المفاوضات في ظل اعتراف الفلسطيني بيهودية الدولة وفي ظل استمرار الاستيطان والتنازل عن القدس وحق العودة وغير ذلك من الحقوق والثوابت الفلسطينية. وللأسف فإن هذا الموقف الصهيوني يستند إلى رضوخ تام من قبل الإدارة الأمريكية وصمت أوروبي يصل حد التواطؤ وموافقة عربية شبه جماعية. أما موازين القوى على الساحة الفلسطينية فتميل في الوقت الحاضر لصالح العدو الذي نجح في رعاية مجموعة من المتنفذين والقياديين المتعاونين معه في فلسطين ليحقق هدفه في ضرب الوحدة الوطنية وشق الصف وضرب الفلسطينيين ببعضهم البعض، فتحقق له الأمان في ربوع الضفة الغربية بعد أن قامت السلطة غير الوطنية هناك بالقضاء على كل من يفكر في المقاومة ومن كل الفصائل والتنظيمات، بدءاً بحركة فتح وانتهاء بحماس مروراً بالجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي. وكذلك استقر الوضع في غزة بهدنة غير معلنة فرضتها الظروف القاسية للحصار العربي الصهيوني الذي يستمر في عامه الرابع دون أن يحرك أحد ساكناً لفكه.

وبعد أن جرى تدجين الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية –إلا من رحم ربي- واشباعه بالثقافة الاستهلاكية التي ترافقت مع ضخ الأموال على مدى سنوات عبر قنوات السلطة والتضخم الوظيفي الذي عملته، وبعد أن تم التأكد من ضرب ثقافة المقاومة والوطنية الفلسطينية عاد الاحتلال الصهيوني إلى اتباع سياسة الافقار والتجويع سعياً لاجبار المواطنين على الهجرة بعد ذاقوا حلاوة الحياة وأصبحوا غير قادرين في مجملهم على تحمل حياة التقشف والقسوة، في ظل عدم وجود بنية تحتية اقتصادية حقيقية.

إنها فعلاً مرحلة خطرة ومفصلية تمر بها القضية الفلسطينية دون أن يتوفر للشعب الفلسطيني قيادة وطنية جامعة تستطيع أن تقوده وتعبر به إلى شاطئ الأمان. فقيادة السلطة وحركة فتح لم تعد تصنف في قائمة الوطنية من قبل قطاعات كبيرة من الشعب في الداخل والخارج. وقيادة حماس لم تستطع أن تحقق إجماعاً شعبياً طاغياً حولها ولم تنجح في إقناع جماهير الشعب في أن لديها برنامج سياسي واستراتيجية وطنية تغلب فيها المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية، رغم ما قدمته من بطولات وتضحيات وخصوصاً أثناء حصار غزة والحرب العداونية عليها وأضاعت الفرصة التاريخية التي أتاحها لها صمودها في غزة ولم تكن قادرة على استثمار الزخم والتعاطف الكبيرين أثناء وبعد انتهاء العدوان على غزة.

إننا اليوم وأكثر من أي يوم مضى بحاجة إلى إيجاد قيادة وطنية فلسطينية تجمع ولا تفرق، لتقود هذا الشعب العريق وتنقذه من ما يحاك له من مؤامرات تصفية. وهي قيادة يجب أن تكون مستقلة ذات رؤية استراتيجية، صلبة مع العدو، مرنة مع أبنائها، تضع الكفاءات في مكانها الصحيح وتبتعد عن المصالح الفئوية والحزبية وتشكل إطاراً جامعاً لكل القوى الوطنية الفلسطينية لأن مشوارنا طويل وصعب وشاق وخطير. وهي قيادة يجب أن تعمل على كافة المستويات، وأعني هنا الفكر والسياسة والإعلام والتربية والاجتماع لتصل إلى كافة فئات الشعب من شباب ونساء، طلاب وفلاحين ومهنيين في كافة أماكن تواجدهم. إن لدى شعبنا مخزون كبير من الشرفاء من الكوادر والكفاءات وأصحاب الخبرات والتاريخ النضالي الحقيقي، فهل هناك من يتصدى لهذه المهمة وهذا النداء؟


الاثنين، 25 أكتوبر 2010

مستقبل النضال الفلسطيني.. رسالة إلى الشباب

مستقبل النضال الفلسطيني.. رسالة إلى الشباب

عزمي بشارة

 

يبدأ موضوعنا اليوم بكلمة نلفظها ونخشى أن نعيها في الأزمات. إنه لفظ "مستقبل" الذي غالبا ما نستخدمه آليا من دون التفكير فيه. إنه غير المفكر فيه بامتياز في هذه المرحلة الحرجة من التاريخ الفلسطيني الغارق في تفاصيل سياسة "العملية السياسية". والتفاصيل هنا ليست تفاصيل شيء يُستدل به على مستقبل ما، بل إنها تفاصيل ذاتها فقط. تفاصيل زائلة ما إن تنشأ وتحظى بالتفاتة حتى تختفي وتصبح ماضيا.

والمستقبل مضمر حتى في الخلاف الفلسطيني الفلسطيني. فالبوح بتصوراته المتناقضة مدعاة للحرج والخجل من حقيقة ما ينتظر في نهاية مفاوضاتٍ لا نهاية لها أصلا من جهة، ومدعاة للسخرية مما يسمى لا واقعية الطرح من الجهة الأخرى.

فماذا نقول للشباب؟ سواء كانوا مكترثين أو غير مكترثين بالمستقبل، إنهم المستقبل ذاته، وهم بالإحالة "ممثله الشرعي والوحيد". ولا شك أن فهمهم للماضي والحاضر جوهري في تحديد هويتهم. ومن دون المستقبل، أي من دون الغاية، تنقلب هذه عصبيةً بلا معنى.

وفي هذه الأثناء ينشغل من يُفترَضُ أن يقدّم تصورا لمستقبل المجتمع الفلسطيني بالحنين إلى ماض ثوري مقاوم فعلا، ولكن لا بد من زرعه بالأساطير، لتجنيده كتعويض عن بؤس الحاضر وتغييب المستقبل، أو ينشغل في وسم هذا الماضي كسلسلة من الأخطاء لشطبه، ولتبرير هجرانه من قبل حاضر لا يريد أن يمتّ له بصلة.

ويغرق الناس بفيض من تفاصيل التسوية والمفاوضات وزيارات المبعوث الأميركي وتجميد الاستيطان ولجنة المتابعة العربية.

ولا يصح في الانشغال والإشغال هذا إلا تسمية صناعة العدم والعبث. فهذه كلها لا تصلح لتتصدَر نشرة إخبارية في مجتمع واقع تحت الاحتلال. وهي لا تكاد تصلح لأن تكون ملاحظة على هامش الخبر. لقد كان آخر خبر صنعته القيادة الفلسطينية قبل عقدين تقريبا. وما زال الوضع الناجم عنه يحول بيننا وبين التفكير في مستقبل النضال الفلسطيني.

والخبر مركب من ظروف تاريخية اجتماعية وسياسية سابقة وراهنة ومن خيارات سياسية ذاتية. وسبق أن قمنا بتحليله وتشخيصه مرارا ولن نفعل ذلك مرة أخرى، ولكننا نود التذكير بعناصره قبل أن نتناول مستقبل النضال الفلسطيني.

ما الانتفاضة الأولى إلا شكل فريد للنضال الشعبي تم تأطيره والحفاظ على ديمومته في محاولة من قبل القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الداخل لأن يلتف على تهميش منظمة التحرير بعد عام 1982، وعلى انسداد الجبهات العربية كافة في وجه المقاومة الفلسطينية.

 

أولا: الظرف الموضوعي والخلفية التاريخية

النضال الوطني الفلسطيني هو نتاج صراع بين السكان الأصليين العرب في فلسطين وحركة استعمارية استيطانية عرّفت وتعرف نفسها بأنها حركة قومية، ولا ينفصل فيها الانتماء القومي عن الديني، وتمارس الاستيطان باعتباره عملية من بناء الأمة وإقامة الدولة وبناء المؤسسات.

وقد اتخذ النضال الفلسطيني شكلا منظّما في سياقات تشكلِ وعي عربي يرفض تقسيم بلاد الشام. ووصلت قمتها التنظيمية في ستينيات القرن الماضي بوجود مشروع عربي يتبنى حركة وطنية تولدت عنها كيانية فلسطينية. ولم يقم فصيل فلسطيني واحد منذ عام 1936، ثم بعد النكبة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خارج هذا السياق. كان النضال الوطني الفلسطيني جزءا من الصراع العربي ضد إسرائيل، بوصفها مشروع احتلال استيطاني لأرض عربية.

وقد اختلّت هذه المعادلة التي قامت على اعتبار قضية فلسطين قضية العرب عندما وصلت إلى الحكم في أكبر دولة عربية نخب سياسية عسكرية تبعتها فئات اقتصادية استنتجت من هزيمة عام 67، ومن نتائج حرب 73 غير المكتملة، ضرورة التسوية مع إسرائيل كجزء من الانتقال إلى المعسكر الأميركي اقتصاديا وسياسيا (اقرأ التبعية!).

لقد تطلب إنفاذ هذا القرار تحوّلات سياسية واجتماعية وحتى ثقافية، كما تطلب عبور حواجز وروادع لا يمكن تجاوزها من دون تغيّر عميق في الشخصية الثقافية والسياسية وفي الفهم الذاتي للنخب الحاكمة.

فمثلا، تشترط التسوية المنفردة مع إسرائيل على أساس حدود 4 حزيران 67 افتراض أن قضية الدولة العربية الجانحة للسلم هي استعادة سيناء. عندها تبدو استعادتها نصرا، وحلا للقضية. والنصر كما هو معلوم أفضل من الهزيمة. والواقع أن إسرائيل احتفظت بها لغرض مقايضتها بالسلام والاعتراف، وأن هذه الصفقة، وأصنافها على كافة الجبهات، هي في الواقع تحقيق للهدف الإسرائيلي من الحرب.

وهذا يعني أن قضية فلسطين ليست قضيتها. كما يقود إلى كتابة تاريخ صراع هذه الدولة مع إسرائيل منذ 67، والكبت السياسي والثقافي والاقتصادي لما سبق حرب 67 وأسبابها. وإلا فكيف يمكن إقناع مجتمع أو شعب أو حتى جزء منه بالسلام وتبادل السفارات مع كيان استيطاني احتل جزءا من الوطن العربي واستوطنه؟

لا بد من إقناعه على الأقل بأن قضيته ليست قضية فلسطين، وإنما قضية أراضي هذه الدولة التي احتُلت عام 67، وهذا يعني مسا ضمنيا بعروبته وبدء عملية التشكيك فيها، كما يعني أمرين آخرين: أن فلسطين قضية الفلسطينيين، وأن أي دولة عربية لم تُحتل لها أراض عام 67 ليس لها شأن هنا.

وما شأن المغرب وموريتانيا والعراق بموجب هذا التفكير؟ شأنها هو عروبتها ذاتها. فهذه الدول ليست فلسطين، ولا احتلت أراضيها عام 67.

سوف تطرح هذه التحولات لاحقا أسئلة كبرى متعلقة بالتطبيع مع إسرائيل وأسئلة كبرى متعلقة بهوية الدول وشعوبها، وأسئلة أخرى متعلقة بسلوك الدول العربية تجاه احتلالات أخرى في المنطقة.

لقد تبلورت الهوية العربية الحديثة على أنها هوية قومية ثقافية سياسية تطمح إلى أن ترسي أساسا لبناء أمة من خلال تناقضات وتسويات محورها رفض تقسيم بلاد الشام في اتفاقيات سايكس بيكو، والالتفاف حول فلسطين من المحيط إلى الخليج، ولاحقا حول تحرير الجزائر باعتبارها قضية العرب جميعا، ومن خلال التمسك بعروبة أي بلد عربي في صراعه ضد الاستعمار.

ولذلك يصعب حصر حجم إسقاطات وتداعيات خطوة توقيع دول عربية كبرى اتفاق سلام مع إسرائيل (من دون حل قضية فلسطين) على الهوية العربية في كافة المجتمعات العربية.

كان هذا خيار قيادات ونخب سياسية اقتصادية، ولكنه بعد أن خلق واقعا جديدا يتلخص في خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي، تحوّل هذا الخيار الذاتي الذي اتخذته قيادة سياسية عربية إلى ظرف موضوعي بالنسبة للقيادات الفلسطينية. وكان بإمكان القيادة الفلسطينية أن تستنج من هذا الواقع المعطى الجديد خيارات مختلفة.

وما أجّل حسم هذه الخيارات لعقد كامل هو وجود معسكرين عالميين، ورفض أحدهما لسلام برعاية الآخر. فقد وفر ذلك إمكانية تحالف مع الاتحاد السوفيتي ضد السلام المصري الإسرائيلي كسلام أميركي (باكس أميركانا، هو التعبير الذي استخدم في تقبيحه، بغض النظر عن عدالته).

وانتهت المهلة مع انهيار منظومة الاتحاد السوفيتي، وتبعه تفكك النظام العربي الرسمي بشكله المعروف حتى تلك الفترة.

فمع انهيار الاتحاد السوفيتي انهارت الجبهة العربية ضد الصلح المنفرد (الصمود والتصدي)، وانهارت الروادع والكوابح عند من أيد خطوة السادات في مكنون نفسه كاتما تأييده خوفا أو خجلا.

ففي العقد الواقع بين 1978-1979 و1988-1989 كان المعسكر الرافض للصلح المنفرد ما زال حيا يسنده معسكر عالمي. وكان مع بوادر وهنه يجهل دنوّ ساعته.

ورافق انهيار المعسكر الاشتراكي تفكك النظام الرسمي العربي بعد حرب الكويت. ونجم عنهما انسداد السبل أمام الانتفاضة الأولى.

وما الانتفاضة الأولى إلا شكل فريد للنضال الشعبي تم تأطيره والحفاظ على ديمومته في محاولة من قبل القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني في الداخل أن يلتف على تهميش منظمة التحرير بعد عام 1982، وعلى انسداد الجبهات العربية كافة في وجه المقاومة الفلسطينية.

لقد كانت الجبهة الوحيدة المفتوحة أمام المقاومة الفلسطينية منذ حرب 73 هي الجبهة اللبنانية وقد أغلقت هذه الجبهة بعد حرب عام 82. وبقيت جبهة الاحتكاك الرئيسية مع إسرائيل هي المناطق المحتلة عام 67، وسرعان ما تحولت إلى ساحة المواجهة والصدام الرئيسية التي بحوزة القيادة الفلسطينية، وذلك ليس فقط في صراعها مع إسرائيل، بل في صراعها من أجل البقاء كقيادة معترف بها عربيا ودوليا.

كل ما نريد أن نوصله لعقل وقلب الشاب العربي والفلسطيني، أنه بعد التقييم العاقل والموضوعي للظروف، يأتي دور حرية الإرادة في صنع الخيارات. هذه الحرية هي شرط النضال. وهي شرط المعنى في حياة الشباب.

 

ثانيا: أمام الخيارات التفاوضية

بعد حرب الكويت وانهيار المنظمة الاشتراكية وتفكك النظام العربي، ومعه الجبهة المعارضة للحل المنفرد، وبدء المفاوضات العربية مع إسرائيل التي تحولت إلى مفاوضات منفردة في ما بات يسمى "مسارات" تخوضها "أطراف" (من ضمنها "طرف" إسرائيلي) في "عملية السلام" لحل "أزمة الشرق الأوسط" (وغيرها من مساحيق مغسلة اللغة ومصبغة المصطلحات الصحفية ووكالات استيراد المصطلحات السياسية الأميركية في فهمنا لذاتنا وأفعالنا)، وقفت القيادة الفلسطينية أمام ما بدا لها خيارين لا ثالث لهما:

1- الانقراض في المنفى في تونس بعيدا عن جبهات المواجهة وعن أماكن تجمع الشعب الفلسطيني في المناطق المحتلة والأردن ولبنان وسوريا، وبعيدا عن المفاوضات.

2- طرح رزمة مغرية لإسرائيل والولايات المتحدة عبر الوسيط الأوروبي (أوسلو في هذه الحالة).

وتتلخص الرزمة في تنازل القيادة الفلسطينية عن العناصر الرئيسية المكونة لقضية فلسطين وعن طابع وتاريخ ممارسة حركة التحرر، وذلك مقابل الاعتراف الأميركي الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف) وتأهيلها للانضواء تحت لواء الصلح المنفرد مع إسرائيل.

ولكنه هذه المرة ليس صلح دولة عربية مع إسرائيل، بل هو صلح مع من بات يسمى "صاحب القضية"، ذلك الذي "يستطيع أن يمنح إسرائيل الشرعية"، لأنه "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"، خلافا لقيادات من مناطق 67 جُمعت لتفاوض. وما كانت لتتجرأ على الذهاب إلى مدريد لولا الضوء الأخضر من م. ت. ف.

لقد تحولت مقولة "الممثل الشرعي الوحيد" إلى أداة مساومة. وتكمن قوتها في قدرتها على مقايضة الشرعية. فالممثل الشرعي صار يعني أنه القادر على فتح بوابة لإسرائيل لاكتساب الشرعية في المنطقة العربية وحتى في العالم الإسلامي.

لقد كانت تلك القيادة مقتنعة بأن جهازها البيروقراطي الباقي في تونس بعد حرب 1982 من دون النظام العربي ومن دون النظام الدولي القديم، وبعيدا عن تجمعات الشعب الفلسطيني سوف ينقرض عاجلا أو آجلا، إذا بقي مقصيا خارج صالونات الدبلوماسية.

فقد أصرت الولايات المتحدة حتى أوسلو على التفاوض مع قيادة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة كاستمرار لنهج كامب ديفد المصري الإسرائيلي الذي يرى في أراضي 67 المشكلة الوحيدة التي تحتاج إلى الحل كشرط للسلام، وعلى أساسها قامت معاهدة مدريد.

ما رأيناه في حينه خيارا خاطئا وازداد اقتناعنا بفداحته عبر السنوات، لم تره القيادة الفلسطينية خيارا أصلا. لقد كان بالنسبة لها ضرورة وجودية. والمقصود وجودها هي، واستمرارها قيادة، وليس وجود الشعب الفلسطيني.

وقد أثبتت الأحداث هذا الترابط العضوي بين وجودها وبين عملية التسوية، وكان التجلي الأوضح حين وُضِع حد لوجود رمز هذا الخيار الرئيس الشهيد ياسر عرفات عندما تعارض مع استمرار التسوية، لأنه أصر حتى اللحظة الأخيرة على أن يستمر في التفاوض مع الحفاظ على بعض الثوابت (ليس كلها)، ومن بينها القدس. كما حاول أن يلتف على التنسيق الأمني مع إسرائيل. وهو الأمر الذي اعتبرته إسرائيل، وما زالت تعتبره، وظيفة السلطة الرئيسية في الاتفاقيات.

وكانت المحاولة الأخيرة التي عشناها جميعا في الانتفاضة الثانية التي تعتبرها إسرائيل، خلافا لما يروّجه أنصار التسوية حاليا، إحدى "حروبها" الأكثر شراسة حتى اليوم.

وقد استقطبت بعدها الساحة الفلسطينية، إذ استنتج منها مؤيدو التسوية ضرورة الإخلاص للتنسيق الأمني مع إسرائيل والرهان على المفاوضات وحدها وإقصاء كل خيار آخر. واستنتج منها مؤيدو المقاومة أن خيار التسوية يعني التنسيق الأمني مع الاحتلال لقطع رأس المقاومة، وحتى رؤوسهم أفرادا.

لماذا قمنا بهذا الاستعراض؟ ليس لنكرر تحليلا قمنا به في السابق. بل لنبين لجيل الشباب أنه أمام المعطيات والوقائع التي يجب أن نقيّمها وندرسها بالعقل، هنالك خيارات لا ضرورات فقط. والنضال خيار.

لم يكن النضال بعد الانتفاضة الأولى خيار القيادة الفلسطينية، بل كان خيارها استثمار هذه الانتفاضة لإنقاذ نفسها في ظل المعطيات الدولية الجديدة. وذلك ليس لأن النضال يتعارض ومصالح الشعب الفلسطيني، بل لأنها وضعت استمرارها السياسي وبقاءها قيادة فوق حقوق ومصالح الشعب الذي تمثل، ورهنا بالمعطيات الدولية.

والدليل على أن هذا الخيار لم يكن الخيار الوحيد الممكن، أنه في نفس اللحظة التاريخية تولّدت خيارات مقاومة أخرى أنجبت قيادات أخرى. وبإمكاننا أن نتخيل ماذا لو قررت القيادة الفلسطينية في حينه استمرار النضال في الظروف الجديدة بوسائل جديدة في إطار يستوعب القوى الجديدة الناشئة على الساحة الفلسطينية التي تتبنى خيار المقاومة. لا وجود لـ"لو" في التاريخ. ولكننا نوردها فقط لكي لا تطمئنَ القلوبُ لضرورات هي في الواقع خيارات.

فكل ما نريد أن نوصله لعقل وقلب الشاب العربي والفلسطيني، أنه بعد التقييم العاقل والموضوعي للظروف، يأتي دور حرية الإرادة في صنع الخيارات. هذه الحرية هي شرط النضال. وهي شرط المعنى في حياة الشباب.

لا يمكن أن تكون مؤمنا بالحرية والعدالة الاجتماعية، ولا يمكن أن تكون وطنيا من دون أن تتخذ موقفا بين المقاومة والتعاون مع الاحتلال.

 

ثالثا: ماذا يعني النضال في هذه الظروف

لقد عمم في العقود الأخيرة على مستوى النظام العربي نموذج كامب ديفد المصري، وذلك على مستوى الممارسة من خلال الاتفاقات الموقعة والمفاوضات (الجاري منها والمتوقف) وكان تعميم نموذج الصلح المنفرد على المسار الفلسطيني هو الأهم بعد السلام المصري مع إسرائيل. وهو الأكثر تشويها. فقد خضع لنموذج ميزان القوى بين دولتين (كما في حالة السلام المصري الإسرائيلي)، لكن من دون دولتين.

لقد تم التنازل عن صيغة حركة التحرر الوطني في الصراع قبل أن تحقق الحركة أهدافها، وقبل أن تنشئ دولة على جزء من الأرض المحتلة على نمط التفكير المرحلي.

لقد تخلت عن صيغة حركة التحرر، فخسرتها ولم تكسب الدولة. وكانت النتيجة سلطة فلسطينية مكلّفة بشؤون السكان، ومكلفة بالتنسيق مع الاحتلال أمنيا ضد النضال الفلسطيني، وتتحمل أعباء الاحتلال، ولكنها معتمدة على أذونه وترخيصاته وتأشيراته، وعلى رضاه السياسي والأمني، وعلى التمويل الأوروبي والأميركي المشروط منذ الانتفاضة الثانية بحسن سلوك هذه القيادة وشعبها.

لقد انتقلت القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى وضع الرهينة، رهينة الاحتلال. يمكنها أن تفاوض وأن تعلق أن تفسّر، ولكنها لا تصنع خبرا، إنها رهينة من يصنع الخبر. وهي تحاول أن توسّع هامش ومساحة حركة الرهينة من دون أن تتجاوز السقف المفروض، فهي متجردة ذاتيا وموضوعيا من كافة الخيارات الأخرى.

والكارثة الكبرى أن فصائل منظمة التحرير التي عارضت الاتفاقيات، ولم تجد لها بديلا نضاليا أو حاضنة بديلة عن النظام الدولي الذي انهار، تآكلت في البداية أمام الجمعيات والمنظمات غير الحكومية في إيجاد مصادر عمل بديلة للمناضلين السابقين مؤدلجة بشعارات مثل المجتمع المدني وغيره.

ولكنها ما لبثت أن تحولت هي ذاتها إلى ما يشبه الجمعيات غير الحكومية تمولها السلطة الفلسطينية، الممّولة بدورها من قبل "الدول المانحة" و"الرباعية".

وكما عم نموذج كامب ديفد على مستوى الدول، عم نموذج المنظمات غير الحكومية على مستوى الفصائل والأحزاب التي أصرت على البقاء في المجتمع السياسي الجديد الذي يسيطر عليه خطاب أميركي ولغة أميركية والمنشغل بلعبة واحدة هي "عملية السلام" تأييدا ونقدا، مديحا وذما... ونجا من هذه الصناعة من بقى في إطار المقاومة.

كان النضال الفلسطيني نضالا في إطار حركة التحرر. وكانت حركة التحرر محتضنة من قبل نظام عربي، كان في خطاب "تقدمييه" و"رجعييه" معارضا للاحتلال الأجنبي، أي احتلال.

 

لقد منعت الأنظمة العربية المقاومة على حدودها منذ أن قررت انتهاء خيار الحرب، ومنذ أن انخرطت في عملية التفاوض مع إسرائيل، التي تسمى بإيجابية أحيانا "مسيرة السلام" على وزن "مسيرة النضال" أو "مسيرة التحرر". وانضمت إليها القيادة الفلسطينية التي أصبحت نظاما عربيا (أو ترغب في أن تصبح).

مذ ذلك غابت صورة التحرر الوطني، وانقسم العرب إلى مناصري تسوية ومناصري مقاومة. وهي مفاهيم جديدة لم نعهدها.

ومن نافلة القول أننا لم نعهد قبول العالم العربي باحتلال بلد عربي، فبتنا نعهد تسليم النظام الرسمي العربي باحتلال فلسطين، ثم العراق، واعترافه بسلطات تحت الاحتلال.

ولم نعهد في الماضي نضالا خارج إطار حركة التحرر فبتنا نعهده. كان للنضال قيم تعتبر المقاومة شرطا ضروريا، وكان يتجاوزه إلى مفاهيم تحررية أخرى لا تقتصر على مقاومة الأجنبي. واكتفت المرحلة بـ"مقاومات" يميّزها الاكتفاء بشرطها الضروري، وهو مقاومة الأجنبي.

وانسدت حدود الدول أمام المقاومة. فالدولة باتت تعني التسوية والتمسك بـ"عملية السلام". وتدبّرت المقاومة أمرها في المناطق التي تنسحب منها الدولة أو تضعف، مثل ألا تكون دولة بل سلطة تحت الاحتلال، أو مثل أن تحتمي المقاومة بطائفة، بمجتمع مذهبي، حيث تضعف الدولة أمام الطوائف.

هنا يُطرح السؤال، هل هذا هو أفق النضال الذي نقدمه للأجيال القادمة؟ لا مكان، ولا مجال للاستخفاف بضرورة الوقوف مع المقاومة ضد الاحتلال، فهامش المناورة هنا ضيّق عند من ما زال يحمل قيم النضال والتحرر.

كنا في الماضي نطلق تسمية معينة على من يقايض الأهداف الوطنية بظروف حياة أفضل تحت الاحتلال، مثلما لم يكن تسليم معلومات للاحتلال عن مناضلين يسمى "تنسيقا أمنيا". ولا يمكن أن تكون مؤمنا بالحرية والعدالة الاجتماعية، ولا يمكن أن تكون وطنيا من دون أن تتخذ موقفا بين المقاومة والتعاون مع الاحتلال.

وكلما اتسعت الهوة بين المقاومة وعدم المقاومة، بتحويل عدم المقاومة إلى فعل معاد للمقاومة، بالتنسيق مع الاحتلال مثلا، فإن هامش الخيارات يضيق بالنسبة لأي إنسان وطني.

والوطنية ليست شعارا، أو رسوما (كليشيها)، أو طرزة قديمة عفا عليها الزمن. الوطنية ليست تعصبا، ولا هي حركة إيديولوجية قومية. الوطنية هي الشرط اللازم لحياة مجتمع سوي، ومؤسسات شعب، واقتصاد طبيعي، وإنتاج ومنتجين، وتربية وتعليم، وقيم وأخلاق.

في ظل الوطنية قد ننقسم إلى ديمقراطيين وليبراليين وأصوليين. ولكن من دون وطنية لا ننقسم تحت سقف يجمعنا، بل ننحل انحلالا. ونتحول إلى عصابات ذئاب وأيتام على موائد اللئام يحكم علاقتهم قانون الغاب، وتعبث بهم وبهويتهم وثقافتهم، وحتى تصوراتهم عن ذاتهم القوى الاستعمارية.

من هنا، لا أفهم وطنية تحتار في الخيار بين المقاومة، مهما كان طابعها، وبين التنسيق الأمني مع الاحتلال. ولا أعرف وطنية لا يثيرها ولا يستفزها ولا يدفعها إلى الحسم تسليم شاب مناضل لقوات الاحتلال، مهما كانت دوافع هذا الشاب، ومهما كانت دوافع الذي سلمه.

وعندما أراجع مع شباب هذا الوطن تاريخ فصل قضية فلسطين عن العرب لتصبح قضية الفلسطينيين، وعندما أراجع النتائج المترتبة على ذلك في الفرز بين قوى التسوية من جهة ومقاومة من دون حركة تحرر من جهة أخرى، فغالبا ما يذكّرني بعض الإخوة بما كتبته في الماضي من أن من لا يناضل من أجل حقوقه لا يُتوقع منه أن يناضل من أجل فلسطين.

فهل تريد أن ننتظر تحرر العرب لكي نعود ونخلق جبهة عربية من أجل فلسطين؟ هل علينا أن ننتظر أن يناضل العرب لتغيير واقعهم في دولهم؟ هل هذا ما تعنيه باستعادة البعد العربي لقضية فلسطين؟

عندما كان العرب يُلامون بأنهم لا يخرجون للتظاهر من أجل فلسطين كنتُ أقولُ مدافعا إن الناس لا تحترف التظاهر، ومن لا يناضل من أجل قضاياه لا ينتظر منه أن يناضل من أجل فلسطين. والمقصود هو أن النضال من أجل فلسطين يتجاوز التضامن والتظاهر في المناسبات والأزمات، إذا كانت فلسطين قضية المجتمع، وإذا كان النضال جزءا من مشروع نظام، أو جزءا من مشروع معارضة، بحيث يتعلق برؤية مستقبل البلد ومستقبل العالم العربي. وخارج هذا السياق يكون الموقف مع فلسطين تضامنا صادقا ومهما، لكنه متقطع تنقصه الديمومة.

هل ننتظر إذا نشوء مشاريع عربية لأنظمة، أو مشاريع معارضات عربية؟ لا ليس هناك وقت للانتظار ولكن الخلاف بيننا ليس على الانتظار، بل على ماذا نفعل.

هنالك من استنتج من عدم الانتظار الذهاب إلى التسوية حتى النهاية، بما في ذلك التنازل على الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف. فاشتدت دهشته حين لم يجد الاحتلال متمسكا بثوابته فقط، بل يزداد تمسكا كلما تجرد هو من أسلحته ومن خياراته.. حتى أصبح بوسع أي شاب فلسطيني أن يعدد الثوابت الإسرائيلية ويشخصها حتى في غابة التفاصيل التي يشغلونه بها:

 

·        رفض حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.

·        التمسك بيهودية إسرائيل. وهي ليست يهودية مستجدة، بل هكذا أعلنت دولة إسرائيل منذ عام 48، وهكذا استمرت بالنظرية والممارسة.

·        وضع الاعتبارات الأمنية فوق أي اعتبار سلام. وضمن تفسيرات وتطبيقات هذه الاعتبارات أن يكون أي كيان فلسطيني منزوع السلاح، وأن لا ينشأ تواصل بينه وبين الدول العربية من دون إذن إسرائيلي.

·        لا عودة إلى حدود 67 في الضفة الغربية.

·        الاحتفاظ بالسيادة الإسرائيلية على القدس.

·        الحفاظ على العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة بشكل يميّز هذه العلاقة كمّا ونوعا، سياسيا وثقافيا واقتصاديا، عن علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية المتحالفة معها.

 

قد يعني عدم الانتظار إذا الاندفاع إلى التسوية. وقد يعني النضال ضد مظاهر الاحتلال اليومية، وضد التواطؤ معه، والنضال ضد تقديم تنازلات متعلقة بالحقوق الثابتة، مهما اشتدت الظروف وتحوّلت الاعتبارات. والدافع هنا مبدئي.

ولكن عمليا أيضا يمكن الاستمرار في النضال من دون استنزاف الشعب ووضعه أمام خيار التنازل كأنه ضرورة. وحتى من تبنى البراغماتية كإيديولوجية لا بد أن يلاحظ أن التنازل عن الحقوق الثابتة لم يُقابَل بتنازلات إسرائيلية تحقق للفلسطينيين حقوقا، بل تمت مقايضتها بتأمين حياة أكثر راحة تحت الاحتلال.

وقد كنا في الماضي نطلق تسمية معينة على من يقايض الأهداف الوطنية بظروف حياة أفضل تحت الاحتلال، مثلما لم يكن تسليم معلومات للاحتلال عن مناضلين يسمى "تنسيقا أمنيا".

لنتذكر كيف كان يوصف فرد أو مجموعة تجتمع مع ضباط الاحتلال لمناقشة كيفية إحباط عملية فدائية، أو كيفية تسليم مطلوبين، أو لتبادل المعلومات عن مكان وجودهم. بالتأكيد ما كنا نصف ما يقومون به بعبارة "تنسيق أمني".

عندما يُلقى سلاح النضال، ويتم التخلي عن إستراتيجية النضال الشامل تغدو المفاوضات تفاوضا على الحقوق، وليس لإحقاق الحقوق.

أما حين تمارس ذلك قيادة مُمَأسسة، ومعترف بها دوليا، ولديها إمكانات فإن المصاب جلل رغم غسيل التسميات، لأنه في هذه الحالة يتم نخر المجتمع الفلسطيني، بنخبه ومثقفيه، بواقعية ليست واقعية، وثقافة استهلاكية لا تنجم عن الإنتاج والنمو بل عن بيع الحقوق الوطنية والثقافة والتاريخ.

جاء في القرآن الكريم "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا" (الكهف 103-104)، وفي حالتنا، لا يحسبون أنهم يحسنون صنعا، بل يعرفون ماذا يفعلون. ولكنها مغسلة اللغة.

وجاء على لسان السيد المسيح "ماذا ينفع الإنسان لو كسب العالم كله وخسر نفسه؟" ونحن نطرح سؤالا أكثر تواضعا، ماذا ينفع الإنسان لو ربح بضعة ملاهٍ ومقاهٍ وأكشاك ومجمعات استهلاكية في ظل الاحتلال، وخسر مقابل ذلك ذاته كشعب؟

وكيف نكون فلسطينيين من دون فلسطين، هل نصبح ضفاويين وغزاويين ومقدسيين، أو نابلسيين؟ إن من بدأ التعامل مع المناطق المحتلة عام 67 كأنها هي فلسطين لم يتنازل عن التاريخ فقط، بل تنازل عن حاضر الشتات وحاضر القدس وحاضر فلسطين التي احتلت عام 48، وتنازل لاحقا حتى عن الرابط بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

ومن يدري ماذا ينتظرنا؟ إنه نفس المنطق التفكيكي الذي بدأ بالتنازل عن عروبة الدولة العربية وانتهى بتفكيكها إلى طوائف.

المهام النضالية كثيرة إذا، وهي لا تتلخص أبدا في الانتظار. وهنا يُسأل السؤال، هل يتناقض النضال مع التفاوض؟ وهل يمكن تصور نضال بلا نهاية لا تتبعه مفاوضات؟

لقد تخللت المراحل الأخيرة من نضال حركات التحرر في العالم جميعها محادثات سياسية ومفاوضات، بما فيها تلك التي انتهت بإنهاء الاحتلال كما في الجزائر، وبتفكيك النظام القائم، كما في جنوب أفريقيا.

هذه ليست القضية. ومن يناقشها يختلق قضية وهمية. النضال يجري على كافة الجبهات والوسائل من الكفاح المسلح، وحتى النشاط الثقافي والتربوي والنقابي، والرأي العام الدولي، والرأي العام في دولة الاحتلال. النضال الوطني نضال شامل. وقد تتخلله هدنات وترافقه مفاوضات ومحادثات سياسية، وغير ذلك. المهم أن المفاوضات لا تُطرح بديلا للنضال قبل تحقيق الحقوق.

وعندما يُلقى سلاح النضال، ويتم التخلي عن إستراتيجية النضال الشامل تغدو المفاوضات تفاوضا على الحقوق، وليس لإحقاق الحقوق. إن شرط المفاوضات النهائية مع أية قوة احتلالية هو اعتراف هذه القوى بنهاية الاحتلال، ورغبتها في أن تجري النهاية بشكل منظم، وأن تتفاوض على كيفية إنهاء الاحتلال.

أما المفاوضات الجارية بين السلطة وإسرائيل فلا تجري على تفكيك الصهيونية والاحتلال، بل على تفكيك التاريخ والجغرافيا الفلسطينية. وبذلك فإنها تقدم نموذجا حيا للتناقض بين النضال والتفاوض عند من تخلى عن النضال قبل تحقيق الأهداف.

ما تطبيق نموذج الدولتين إلا هذه الحالة المشوهة المحققة حاليا على الأرض، مع تعديلات طفيفة في المستقبل في أفضل الحالات.

 

رابعا: أفق النضال الفلسطيني

لقد أصبح رفض الرأي العام الفلسطيني التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني شرط استعادة البعد العربي لقضية فلسطين حاليا، خاصة بعد أن تذرعت الأنظمة الرسمية العربية بمقولات مثل "الممثل الشرعي والوحيد"، و"أهل مكة أدرى بشعابها"، و"لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطيني". وهو شرط تفعيل حركة التضامن الدولي. وهذا ممكن. ولكن لا يمكن تحريك تفعيل التضامن مع من يحرجه التضامن، وتحرجه مقاطعة إسرائيل، ويعتبرهما تدخلا في المفاوضات وفي "علاقته الثنائية مع إسرائيل".

لا بد من التمسك بحقوق ثابتة غير قابلة للتصرف، مثل حق العودة، وزوال الاحتلال، وعروبة القدس، وغير ذلك لغرض استعادة هذا الأبعاد. وكلنا يعرف أن هذا التمسك يحبط التسوية، فإسرائيل لن تقبل بتسوية هذه شروطها.

ومن هنا فعاجلا أم آجلا يجب أن يطرح أفق أوسع للنضال يمكن أن نعتبره عنوانا سياسيا جامعا لمئات المبادرات الفلسطينية المحلية التي قامت من دون إذن من أحد في مرحلة تهميش السلطة الفلسطينية لـ"م. ت. ف".

يجب أن تُجمع مئات المبادرات الشبابية والطلابية، واللجان المحلية في مختلف أماكن وجود الشعب الفلسطيني، تحت سقف سياسي، وعنوانه رفض التنازل عن الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف، وأنه تعذرَ التوصل إلى تسوية عادلة بين كيانين في دولتين.

وما تطبيق نموذج الدولتين إلا هذه الحالة المشوهة المحققة حاليا على الأرض، مع تعديلات طفيفة في المستقبل في أفضل الحالات.

والأفق الوحيد لأي تحرر يحمله جيلنا والجيل القادم هو أن يعيش السكان في فلسطين كلها مواطنين متساوي الحقوق في دولة واحدة. ولكي يحصل ذلك يجب أن تقوم هذه الدولة على المواطنة الديمقراطية المتساوية، تفكيك الصهيونية شرط لتحقيق المواطنة، وأن تنتمي فلسطين الديمقراطية هذه إلى حاضنة أكبر هي الوطن العربي. وإن البديل لهذا الحل العادل على المدى البعيد ليس حل الدولتين، فنحن نرى تطبيقه جاريا أمام أعيننا، وإنما أن يجري التعامل مع هذا الكيان من قبل شعوب المنطقة (خلافا لأنظمتها) كدولة صليبية جديدة تزول عاجلا أم آجلا.

ومجرد التفكير في ذلك يجعل حل الدولة الواحدة في فلسطين يبدو كما هو فعلا حلا عادلا، وليس شعارا متطرفا.

 


الخميس، 14 أكتوبر 2010



حتى لو رقصوا على خراب الأقصى والصخرة

رشاد أبوشاور

 

ذلك المشهد لن يهّز مشاعر(هم) .. ( هم)! ..أنت تعرفون(هم)!.. مشهد الجندي الصهيوني الذي كان يرقص متلويا بفجور ومياصة حول الفتاة الفلسطينيّة (الأسيرة) المقيدة،المغطاة العينين، إحسان دبابشة، من بلدة نوبا قضاء الخليل، على إيقاع تطبيل جنود لم نرهم، لم يكن وحده، بل كان هناك آخرون من جيش (الدفاع) يشاركون زميلهم الانتصار على بنت فلسطينيّة مقيدة، معصوبة العينين، بالتطبيل والتصفيق، فجيش (طهارة السلاح) يحتاج (لوحدة) من خيرة (أبطاله) لتحقيق الانتصار على الفتاة الفلسطينيّة المقيّدة!

ليس لأحد عذر بالإدعاء بأنه لم ير المشهد، فالفضائيّات نقلت حفلة الرقص حول الفتاة الفلسطينيّة المقيدة، والمثل يقول: السمع مش مثل الشوف، بالفصحى (أن تسمع ليس كأن ترى).. فهل رأوا، أم تراهم يتجنبون متابعة عذابات شعب فلسطين؟!.

هم يدسون رؤوسهم في..وسائدهم، أو في أحضان..ولماذا يشغلون أنفسهم، ويبددون سعادتهم، ومباهج أيامهم، في متابعة مشاهد تقبض نفوسهم، وتنكّد عليهم، ف(هم) يتجنبون التنغيص، وتوتّر الأعصاب، فالثروات هبطت عليهم، والمُلك آل إليهم دون جهد، أو سعي، فليتمتعوا، ولتنشرح نفوسهم بما ملكت أيمانهم، فلا أحد يحاسبهم، فهم آمنون مطمئنون، والفضائيات التي يتابعونها، إن تابعوا..هي التي ينفقون عليها، والتي هي كباريهات تسلية، ونعنشة!

ملايين العرب رأوا المشهد المُذّل، العرب المقهورين، المقيّدين مثل إحسان، المقيّدين بقيود(هم)، الذين يرون ويعجزون عن نجدة إحسان، وكسر قيدها، بنخوة المعتصم!

ولكننا نعيش في زمن أشباه الرجال، سبب عجز الأمّة وهوانها، ومهانتها...

وماذا لو رأوا يا إحسان؟! عيونهم إن رأت ستكون من زجاج لا تندى ـ يرحم الله الكاتبة الفلسطينيّة الكبيرة سميرة عزّام صاحبة قصّة (حتى العيون الزجاج تندى) ـ ونفوسهم من إسفنج تمتص ولا تنفعل.

ليست في(هم) نخوة المعتصم يا إحسان.

إن(هُم) من صاح بهم غاضبا مظفر النوّاب:

أدخلتم كلّ زناة الأرض

إلى غرفتها

ووقفتم تسترقون السمع

أبناء القحبة

ما أشرفكم!

هل تسكت مغتصبة؟!

تلك هي أمنا فلسطين التي أدخلوا إلى غرفتها كل زناة الأرض المجلوبين من أربع جهات الدنيا، وأدخلوهم عليها، ووقفوا يتنافخون شرفا، متباهين بما قدموه في الذود عن عرضها، وتباروا في تقديم لوائح تضحياتهم لأجلها، وهي في (الأسر) مقيدة مستباحة، يرقص حولها أبناء الـ...

تبلّدت مشاعر(هم) يا إحسان الفلسطينيّة، فما يخجلون، ولا تفور الدماء عربيّة في عروق(هم)..فأي دم في العروق يا إحسان؟!

أنت لست أغلى، ولا أقدس من القدس، والخليل..يا أختاه!

أما رأيت كيف صمتوا، بل باركوا تقسيم (الحرم) الإبراهيمي، ومزّقوا قلب الخليل!

ها(هم) يسمعون بما يجري للقدس، فيسدون آذانهم حتى لا تزعجهم تلك الأخبار، ف(هم) مشغولون بما هو أجّل عند(هم) وأبقى، و(أقدس)!

أنت تنتمين لنساء جبل الخليل، نساء فلسطين، سليلة النساء اللواتي اعتدن الصعود دعما لأزواجهن بأرغفة الخبز، والزغاريد، والرصاص للبنادق.

أنت سليلة النساء اللواتي كنّ يتعزين بكبرياء، وحزن مُترفّع، عند استشهاد الزوج، أو الأب، أو الإبن، أوالأخ:

طلّت البارودة والسبع ما طّل

يا بوز البارودة من الندى مبتّل

استشهد البطل الشجاع، وبجواره تتمدد بارودته التي ضمخها ندى الصباح، عاليا عند قمة الجبل..وجبال الخليل العالية تنادي دائما رجالها، وهناك، هناك عرف الغزاة الإنكليز من يواجههم، ومن هناك هبط أولئك الرجال وانقضوا على الصهاينة المجلوبين تحت العلم البريطاني.

لو يا إحسان رقص المستوطنون الصهاينة، وجنود العدو، على أطلال المسجد الأقصى، وقبّة الصخرة، فاعلمي أن(هم) سااااااايدعون إلى مؤتمر(قمّة) و..ساااااا يطالبون برفع شكوى عاجلة لمجلس الأمن، وسااااايطلبون إدانة العدوان على المقدسااااات..وسيقررون دعم القدس، وصمود أهلها بـ500 مليون دولار، غير التي قررت في مؤتمر(سرت) السابق، والتي لم يصل منها شيء..وسااااا يوعزون لفضائيات(هم) ببث أغان حزينة، وآيات من الذكر الحكيم، وتعليقات حامية كلها جعجعة..ثمّ سيعودون إلى واقعيـتـ(هم)، ويطالبون كأنذال محترفين خانعين بـ..تقاسم (المكان) المقدّس للأديان السماوية!

إن(هم) يا أُختاه الذين التقوا في (سرت) وقرروا منح أمريكا أوباما فرصة شهرـ سيكون شهر عسل جديدا بين الحبيبين أمريكا والصهاينة، وسيترجم مزيدا من الطائرات، والصواريخ، والأسلحة المتطوّرة لزوم التفوّق على همل العرب! لتتدبر أمر وقف الاستيطان، آو تجميده لشهرين فقط، على كيف نتنياهو، وهو فتى أمريكا المدلل، وأوباما يتذلل له باسمه وباسم(هم) ليمنح الجميع مخرجا يحفظ ماء الوجه، لا ماء الضفّة الغربيّة!

لم يعد الصراع على فلسطين، فـ(هم) اختزلوه، واختصروه، ومسخوه، إلى: تجميد الاستيطان.. لشهرين، بس شهرين يا (معلّم) نتنياهو!

هذا هو مآل القرار المستقّل!

هكذا تكون القضيّة في أيدي (أصحابها) ..وأصحابها أنت يا أختاه، والفتى الذي طار فوق سيّارة المستوطن في القدس، والمشهد أيضا رآه العالم باستثناء من التقوا في (سرت)، فهم كانوا مشغولين في التخطيط الاستراتيجي لـ..انتزاع قرار بتجميد الاستيطان لشهرين!

وماذا بعد الشهرين؟!

هل في غضون شهرين ستزال المستوطنات، والأحياء التي بلعت القدس؟!

هل سيعاد زرع جبل (أبو غنيم) بأشجار السرو والصنوبر، وتكشط الأبنية التي زرعت وحرمت بيت لحم من التواصل مع القدس؟!

هل ستنتهي عملية سرقة مياه الضفّة، لترتوي منها الحقول التي جفّت أشجارها، أعنابها وتينها ونخيلها؟!

هل سيعود الحرم كما كان قبل المذبحة والتقسيم؟!

هل ستفرح قلوب الأسرى بمعانقة الأهل، والبيوت، والأبناء، والبنات والزوجات، والآباء، والأمهات، والجيران؟!

هل سيعترف الكيان الصهيوني بحّق عودة اللاجئين إلى مدنهم وقراهم، وفقا للشرعيّة الدوليّة؟!

ليس لنا يا أختاه.. ليس لنا يا فتى افتخرنا بجسارته وهو يهاجم سيّارة المستوطن بالحجر ـ يا فتى يستحّق قيادة تليق به وبشعبه ـ وينهض مدمّى، سوى أن ننهض بكامل وعينا فنغيّر حالنا الفلسطيني، فمنّا يبدأ كل شيء، لا من(هم)، فهم ارتاحوا من هّم فلسطين، و(هم) يريدون تكريس قيادات مثل(هم) علينا..لا مثيل لها في سرعة تقديم التنازلات، والمزيد من التنازلات، بمباركـتـ(هم)!

ليس لنا إلاّ نحن يا أختاه، يا عمّاه، يا أمّاه، يا إبناه، يا إبنتاه...

فطريقنا غير طريق(هم)، قاتلهم الله...