الخميس، 27 يناير 2011

عصر الجماهير ابتدأ

عصر الجماهير ابتدأ

 

صدح صوت الشعب في تونس فارتد صداه في شوارع قاهرة المعز. هو –ربما- الارتباط التاريخي والصلة التاريخية بين القاهرة التي بناها جوهر الصقلي عاصمة للخليفة القادم من تونس مؤسساً خلافة جمعت بين أجزاء من مغرب الأمة وشرقها في نقطة الالتقاء المصرية. ومنذ ذلك الوقت والصلة بين البلدين والشعبين مستمرة بشكل متبادل، فحتى عندما قررت جامعة الدول العربية نقل مقرها من القاهرة بعد اتفاقية كامب ديفيد الخيانية، كان البديل هو تونس. مفارقات تحضر للذهن ونحن نبصر ما يحدث اليوم في البلدين والتأثير المتبادل بينهما. هي هبة شعبية لم تشهد مصر لها مثيلاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً. يومان عاصفان لم يتوقع النظام المصري أن يكونا بمثل هذا الزخم والغضب.

هي أيام الغضب إذن يدوي صداها في أرجاء مختلفة من الوطن العربي -من اليمن إلى الأردن فمصر والجزائر وموريتانيا ولبنان- مؤكدة بدء عصر الجماهير الذي استهلته جماهير تونس بثورتها الجارفة والتي ما زالت في بداياتها تسعى لتحقيق كامل أهدافها. لكن للحالة المصرية بعد خاص نظراً لمكانة مصر وتأثيرها وأهميتها التي يجادل أحد.

فاض الكيل بشباب مصر وبناتها، فانطلقوا عبر فضاء الانترنت يبثون همومهم وأفكارهم وأحلامهم وطموحاتهم. لم يلبث هؤلاء الشباب أن تداعوا سوياً لعمل ما يغير في واقعهم وحياتهم فرأينا الدعوة لمظاهرات مطلبية جديدة من نوعها في 6 إبريل 2008. بعد النجاح الذي حققوه في هذه المظاهرات اكتشف الشباب أن بمقدورهم تحريك الشارع، فشكلوا حركة شباب 6 إبريل تخليداً لهذا اليوم. وهذه الحركة هي اليوم المحرك الرئيسي للهبة الشعبية في مصر والمنظم لها، وسيذكر التاريخ أن يوم 25 يناير كان اليوم الذي انكسر فيه حاجز الخوف من الحاكم الطاغية وزبانيته من رجال الأمن والعسكر. لم يعد المصري يخشى السلطة، ولم يعد يخشى النزول إلى الشارع ومواجهة جحافل الأمن المركزي. وعندما ينكسر حاجز الخوف يصبح كل شيء ممكناً.

ظن النظام أن الأمر لن يعدوا عن كونه مظاهرة أو مجموعة مظاهرات قليلة العدد سيخرج بها بعض الشباب والمثقفين والصحافيين المعتادين وسينتهي الموضوع خلال بضعة ساعات ويعود كل إلى منزله بعد أن أخرج ما في جعبته من غضب واحتقان. لهذا صدر الأمر بعدم الاصطدام مع المتظاهرين وتركهم ينفسون عن غضبهم. لكن ما لم يكن بالحسبان هو أن هذه المظاهرات خرجت مدوية عارمة حاشدة في ثناياها مئات الآلاف من المصرين من كل الطبقات والفئات التي في غالبها كانت تمارس حقها في التعبير لأول مرة في حياتها. وكان أن استمرت هذه المظاهرات بلا نهاية واضحة لها وتصاعدت مطالب المتظاهرين من المطالب السياسية والاجتماعية المعلنة إلى حد المطالبة الصريحة بإزالة الحاكم وكل نظامه. عندها اضطرت قوى الأمن للتكشير عن أنيابها ومهاجمة المتظاهرين وقمعهم. لكن بعد فوات الأوان. فالشارع التهب والمشاعر ألهبت والخوف زال والأمل عاد ورأى الشعب المصري نفسه يعيد أحداث تونس القريبة ورأى العالم العربي كيف يتردد الحاكم عندما يتحرك الشعب.

لا نعرف بعد إلى أين ستسير الأوضاع في مصر وهل ستتطور هذه الهبة الجماهيرية لتصبح ثورة شعبية شاملة –وهي مرشحة لذلك بالتأكيد- أم أنها ستستمر لعدة أيام ثم يعود الهدوء إلى الشارع. لكن المؤكد هو أننا على أعتاب عصر جديد هو عصر الجماهير، وستنقلب الموازين وتعود للأمة كرامتها في وجه أعدائها الداخليين والخارجيين وبوادر التغيير في لبنان بدأت وفي مصر وتونس واليمن وفلسطين وغيرها من الدول. بشائر عصر الجماهير أتت معلنة أن الخوف قد ذهب إلى غير رجعة وأن الشعوب عندما لا تعود خائفة يمكنها فرض إرادتها على الجلاد والمستبد. وسيحصل هذا عاجلاً أم آجلاً في أرض الكنانة لتعود مصر لأهلها ولأمتها ويعود التوازن إلى الوطن العربي ويلحق بها المزيد من الشعوب الباحثة عن الحرية والكرامة والعدالة، وفي هذا فليتنافس المتنافسون.

 


الأربعاء، 19 يناير 2011

استعادة الأمل .. تونس

إيهاب السيد

 

وكأنما جاءت ثورة الشعب التونسي في الوقت الضائع من زمن القهر والخضوع العربي، جاءت من هناك من المغرب العربي، لتعلن أن الأمة العربية ما زالت حبلى ببشائر الخير وليست كما يدعي أعداؤها عاقراً. بثت هذه الثورة السلمية الأمل في نفس الشباب العربي من المحيط إلى الخليج بإمكانية التغيير والنجاح في فرض إرادة الشعب إذا ما قرر الوقوف بشجاعة في وجه حكامه من الطغاة.

بصدورهم العارية واجه شباب وبنات تونس قوى القمع الظلامية ولم يثنهم في ذلك تهديد وترهيب واستخدام الرصاص الحي ضدهم. تجمعوا في ميادين تونس العاصمة ومدنها الأخرى صفاقس وبنزرت والقصرين وتاله وغيرها ليهتفوا بأعلى الصوت (إذا الشعب يوماً أراد الحياة ...). وكان لهم ما أرادوا فاستجاب التاريخ لندائهم وفر الديكتاتور لا يلوي على شيء. لم يصغي هؤلاء الواضعون أرواحهم على أكفهم لأنصاف المعارضين الذين حاولوا إقناعهم أن التغيير لا يأتي بالثورة الشعبية، ولم يستمع المنتفضون إلى أراء الصحافيين والمفكرين والمنظرين المنهزمين والجبناء بأن لا فائدة مما تفعلون فالشعب خانع وخاضع ولن يوقظه شيء. لم يستمع هؤلاء لكل من حاول وسعى لإحباط عزائم الشباب عبر عقود ماضية من إمكانية التغيير وإقناعهم بضرورة الاستسلام للأمر الواقع والتسبيح بحمد السلطان وشكره لكونهم يستطيعون العودة إلى منازلهم في أخر اليوم.

لا لثقافة الهزيمة والانكسار

لقد مللنا من أنصاف المفكرين وأنصاف المثقفين والأقلام المأجورة وأمثالهم من السياسيين الذين لم يعد لهم شغل يشغلهم سوى طرح النظريات حول موت الأمة وهزيمة الشباب وإشباعنا بنظريات الهزيمة والاستسلام، وكل ذلك وهم يدعون المعارضة والوطنية وحرصهم على الشعب والأمة وما هم إلا أبواق للأنظمة الحاكمة والأمر الواقع. وظيفة المفكر والمثقف الحقيقي أن يعطي الأمل للأمة بإمكانية وضرورة بل وحتمية التغيير والتقدم للأفضل وتعرية أوجه الفساد والعمالة.

ها هو الشباب العربي مع بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين يسطر أحرفاً ناصعة للتاريخ وتأتي الثورة من بلاد المغرب العربي لتتواصل مع نجاحات المقاومات في الجناح الشرقي للأمة في العقد الماضي في فلسطين ولبنان والعراق فكأنما يأبى أحرار تونس أن يبقى شرف مقاومة المؤامرات الأمريكية والصهيونية حكراً على مشرق الأمة دون مغربها.

الثورة ممكنة

يا إخواننا في تونس لقد استلمنا الرسالة. كنا معكم كل يوم على مدى شهر كامل نتابع انتفاضتكم بقلوب خائفة عليكم، تشاطركم الرغبة في الثورة وتؤازركم بالدعاء كل ليلة. وما أن بدأت بشائر النصر في الخطاب الأخير للمخلوع بن علي حتى نزلنا إلى الشوارع في مصر والأردن نحتفل بانتصار الصدور العارية على الأسلحة النارية. ونحن مازلنا نخرج للشوارع في اليمن وموريتانيا ومصر ولبنان وفلسطين والأردن وغيرها من الدول تضامناً معكم وفرحاً بانكسار القيد. نحن فرحون حقاً لكم، لكننا ربما أكثر فرحاً بعودة الأمل إلى نفوسنا، بعودة الروح إلى أمتنا، بانهيار الحاجز النفسي الذي كان يمنع الشباب من حمل لواء التغيير في دولهم، حاجز الخوف الذي راهن الطغاة وأعداء الأمة على بقائه إلى ما لا نهاية. نعم نحن نعلم الآن أن باستطاعة الشعوب تغيير واقعها ورفض الذل والمهانة اليومية والوطنية، وأن إرادة الشعب لا تقهرها كل قوى الأمن وأسلحتها مهما بدت مخيفة.

إن توحد الشعب بكافة فئاته هو الرافعة الحقيقية لأي ثورة شعبية، هذا ما تعلمناه منكم يا أهل تونس الأبطال. فعندما ينزل المحامي إلى الشارع ممسكاً بالحجر جنباً إلى جنب مع العمال والطلاب والمثقفين من كافة التوجهات السياسية من اليساريين إلى الإسلاميين والقوميين والوطنيين وما بين ذلك من أطياف سياسية، عندها لا يعود من مجال أمام أمريكا وفرنسا وأعوانهم وأذنابهم إلا الهروب والتراجع.

لا تسقطوا الثورة

الدرس الآخر الذي تعلمناه منكم هو يقظتكم وحرصكم على عدم تضييع دماء الشهداء ونضال الشعب سدى. فعندما كان بقايا نظام الظلم والطغيان يحاولون الالتفاف على ثورتكم تارة بالنهب وأعمال التخريب وأخرى بتشكيل حكومة تستعيد كافة أركان النظام بوجه مختلف وبتجميل من بعض المعارضة، كنتم لهم بالمرصاد. أدركتم اللعبة وخرجتم مرة أخرى لتقولوا نحن لم نضحي كي يستمر النظام الحاكم في الحكم بدون بن علي، نحن ثرنا على النظام كاملاً ولا نرضى بأن يعود ليحكمنا نفس النظام بوجه جديد. لذا نشد على أيديكم ونقول لكم لا تتوقفوا فنجاح الثورة يعتمد على تحقيق النتائج المرجوة منها. وأنتم قطعتم الشوط الأطول، فلا تتوقفوا قبل الوصول إلى النهاية المرجوة وتغيير النظام وإرساء قواعد نظام ديمقراطي وطني يضمن لكم الحرية والكرامة الوطنية ولقمة الخبز الكريمة.


في عبقرية أهل تونس.. تفاؤل الإرادة

في عبقرية أهل تونس.. تفاؤل الإرادة

 

سيف دعنا 

 

ثورة تونس وانتصارها حدث تاريخي بكل ما في العبارة من معنى, وتبعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية عميقة وبعيدة الدلالة، وستشغل الكثيرين لاستيعابها والتعلم منها في قادم الأيام.

وثورة تونس أيضا, حدث إنساني بامتياز وليست حدثا تونسيا أو حتى عربيا بحتا, ولهذا فتبعاتها وتأثيراتها ستكون حتما أكبر وأبعد من حدود جغرافيا تونس الصغيرة, أو الوطن العربي الكبير.

أهم معاني هذه الثورة ربما, ولسان حال أبطال تونس ورسالة الثورة التونسية للشعب العربي أن "مصيرك بيدك" كما قال أحد أحرار العرب للفلسطينيين ذات مرة.

 

تفاؤل الإرادة

ليست عبقرية انتفاضة أهلنا في تونس أنها أعلنت نقضها الحاسم لفرضية موت الشعوب ونهاية عصر الثورات الشعبية فقط, بل أيضا أنها تمردت على هذه الفكرة البالية بتحديها لأكثر الأنظمة العربية استبدادا وقمعا وعجرفة، في واحد من أحلك أيام العرب.

هذا تفاؤل الإرادة في مواجهة تشاؤم العقل، الفكرة العربية الأصيلة التي كتبها بالفصحى أبو القاسم الشابي صاحب "إرادة الحياة" قبل أن يكتشفها ويكتب عنها بإسهاب منظر الإرادة وفيلسوف التمرد أنطونيو غرامشي.

تونس الرائعة كشفت, مثل مقاومة لبنان وغزة والعراق, المخزون الثوري الهائل للثقافة العربية, فمصير الطاغية بن علي بالسقوط والهروب كخفافيش الليل كان نقشا بالعربية الفصحى يوم كتب الشابي أن لا محالة في خضوع القدر لإرادة الشعوب.

عبقرية انتفاضة أهل تونس أنصفت الإنسان المضطهد المتهم بالتخاذل بكشفها لعورات النخب الثقافية والسياسية من اليمين ومن اليسار، وأزمة مشاريعها في كل أوطان العرب

لم يمت الإنسان, ولم تمت الشعوب ولم يخرجوا من التاريخ. مصيرهم بيدهم. هكذا كتب أهلنا في تونس بدمهم. وهذه الفكرة المهترئة عن موت الشعوب التي أريد منها نشر الإحباط وبث التشاؤم بين شعوب الأرض عامة, واستهدفت العرب وبعنصرية خاصة, سقطت في تونس.

فمهما كانت معطيات الواقع الاستبدادي المظلم وتفاصيله المحبطة في أي من أوطان العرب تبعث على التشاؤم, تشاؤم العقل, يمكن لشهيد من طراز البوعزيزي أن يفتتح عهدا جديدا, ويمكن لمقاوم عنيد أن يصنع التاريخ, ويمكن لمتمرد صلب أن يقلب المعادلات كلها.

هذا تفاؤل الإرادة, تفاؤل الاقتناع المطلق بقدرة البشر على التغيير وأولوية الفعل الإنساني الجمعي على استبدادية المؤسسة وتسلطها.

عبقرية أهل تونس أعادت الاعتبار لهذه الفكرة الإنسانية والعربية الأصيلة بحتمية انتصار الإرادة على استبداد وقهر المستعمر الداخلي الذي حول الوطن إلى مزرعة للطاغية والدولة إلى وسيلة لعائلته, وحول العمل السياسي والشأن العام لنشاط مافيوي بامتياز.

عبقرية أهل تونس كذلك, فضحت نفاق المستعمر الخارجي الراعي للطاغية الداخلي وعرت ازدواجيته الفظة وزيف دعايته وعنصرية رؤيته. ففي تونس انكشف زيف لسان الغرب المشقوق الذي ينقط عسلا وسما.

وفي تونس أيضا سقطت بالدم عقيدة المحافظين الجدد الاستشراقية العنصرية عن عجز العرب عن التغيير لتجعل من غزو الرجل الأبيض لأوطاننا وتغييرها بتدميرها مهمة خيرية نبيلة.

 

وعبقرية انتفاضة أهل تونس أيضا أنها أنصفت الإنسان المضطهد المتهم بالتخاذل بكشفها لعورات النخب الثقافية والسياسية من اليمين ومن اليسار، وأزمة مشاريعها في كل أوطان العرب وعجزها عن اللحاق بالمواطن والتعبير عنه وعن همومه.

فمن تخاذل كل هذا الوقت من العرب هي نخبهم التي رضي بعضها في كل مكان، لعب دور "الكومبارس" في مسرحية معارضة سمجة تديرها مؤسسات القمع والاستبداد.

لم يكن الإنسان العربي في تاريخنا المعاصر أكثر حياة وحيوية مما كان عليه أبطال شعب تونس في ثورته الرائعة. فلقد انتفض وحده, عار من كل شيء إلا تفاؤل الإرادة في واقع مستبد، صادر الطاغية فيه الخبز والكرامة, فانتصر وكذلك شكك، بل أسقط كل النماذج النظرية والأفكار السائدة البائدة الآن, التي جعلتنا ننتظر الثورة في أمكنة أخرى بأساليب مختلفة.

انتفض الإنسان في تونس وفاجأ نخب العرب الثقافية والسياسية ليذكرها بما نسيته أو تناسته من أن الإنسان وحده يصنع التاريخ، وأن تشاؤم العقل ليس إلا تغييب الإرادة.

وثورة تونس الرائعة تنتمي لذلك النوع الفريد من الثورات العظيمة التي شككت في أبسط مسلمات الفكر والفلسفة وهددت أبسط مسلمات السياسة والتوازنات القائمة, تماما كثورة البلاشفة في روسيا والثورة الإسلامية في إيران.

فعن الأولى قال فيلسوف الثورة والتمرد أنطونيو غرامشي إنها كانت ثورة حتى على فكر مؤسس الاشتراكية ماركس البنيوي (الذي يزعم بأولوية البنى الاجتماعية والاقتصادية وثانوية الفعل الإنساني).

والثانية, الثورة الإسلامية في إيران, التي كانت باستنادها إلى ما في الفكر الإسلامي من طاقة ثورية هائلة "أول تمرد عظيم على الأنظمة العالمية" كما رأى فيلسوف رفض الطاعة ميشال فوكو.

عبقرية ثورة تونس أيضا أنها تسلح كل مشاريع الثورة المستقبلية في الوطن العربي بنموذج ثوري جديد ونموذج مقاوم جديد

وثورة تونس, تماما مثل الثورتين, البلشفية في روسيا والإسلامية في إيران, كانت فريدة. فكل هذه الثورات لم تسقط أنظمة مستبدة فقط, بل أسقطت ما ساد من أفكار ونظريات عن الثورة والمجتمع والتاريخ والإنسان.

ومثل الثورتين ثورة تونس، باعتبارها فكرة غير محصورة بجغرافيا ولا مجتمع، بل يبدو أن من تبعاتها أنها "قد تشعل النار في كل المنطقة, تقلب الأنظمة غير المستقرة وتهدد أكثر الأنظمة استقرارا" كما قال فوكو عن الثورة الإسلامية في إيران.

كذلك, ثورة تونس مثل باقي الثورات الشعبية أعادت الاعتبار لمركزية الفعل الإنساني في التاريخ وأولويته على المؤسسة, وأعادت الاعتبار للإنسان. هذا تفاؤل الإرادة الذي يتحدى كل نظرية تنتج تشاؤم العقل.

 

الاستشهادي الجديد

عبقرية ثورة تونس أيضا أنها تسلح كل مشاريع الثورة المستقبلية في الوطن العربي بنموذج ثوري جديد ونموذج مقاوم جديد.

فربما لم يعرف البطل المظلوم محمد البوعزيزي أنه بثورته على القهر والاستبداد, وأنه بإشعاله النار في جسده سيكون الشرارة التي ستشعل النار في عروش المستبدين والطغاة الذين ارتجفت فرائصهم رعبا لمشاهد البطولة التونسية.

ربما لم يعرف هذا الاستشهادي من الطراز الجديد أن جسده المشتعل سيحرق معه كل توازنات السياسة القائمة على القهر والمؤسسة على الاستبداد ليس في تونس فقط, بل في كل أوكار الاضطهاد والظلم المنتشرة حيث ينطق البشر بلغة الضاد.

ربما لم يعرف ابن سيدي بوزيد المتمردة أنه بثورته يقلب معادلات الفكر السياسي المزور وفلسفات العجز البالية التي أتخمت عقول مثقفي السلاطين الذين ما برحت أفواههم تنعق بموت الشعوب وموت الإنسان وخروجه من التاريخ.

وربما لم يعرف هذا المستضعف أنه بغضبه يعري وهن كل طاغية ومتكبر، ويفضح هشاشة كل أجهزة القمع, فخلف كل قناع سقط ظهر نظام متعفن آئل للسقوط وجهاز قمع منخور حتى النخاع.

ربما لم يعرف هذا المحتج بجسده أن بقايا جسده المشتعل ستكون الفاصل الفولاذي المانع بين مرحلة مقيتة نراها تمضي من تاريخنا العربي ومرحلة جديدة تولد ولن تكون إلا أفضل مما سلف.

ربما لم يعرف هذا العربي المستباح الكرامة مثل كل عربي أنه البطل الذي سيضيء بجسده بعضا من ليل العرب الحالك، وأنه سيعيد الثقة بالنفس والاعتبار للأمة والمعنى للتاريخ بالنسبة لكل عربي.

وربما لم يعرف هذا العربي الفقير أنه اخترع نموذجا مقاوما جديدا وعبقريا ستعجز وتحار أمامه كل أدوات القمع والاستبداد.

لكنه أشعل النار فعلا في واحد من أبشع عروش الطغاة, هدد توازنات السياسة المؤسسة على الاستبداد, قلب معادلات الفكر والفلسفة المنكرة لفعالية الإرادة الإنسانية وقوة الفعل الجمعي البشري, فضح وهن الطغاة وهشاشة أجهزة قمعهم, أعلن نهاية مرحلة من تاريخنا وبداية أخرى, أعاد لنا الثقة بذاتنا العربية, أضاء ليلنا القاتم من السودان إلى مصر ومن فلسطين إلى اليمن, وقدم لنا نموذج المقاوم الجديد القادر على فعل كل ما سلف.

 

بداية التحدي

بطولات أهل تونس وانتصارهم أصبحت حجة لا على النخب الحقيقي منها والمزور والمريض, التي اكتفت بلعب دور المعارض من داخل المؤسسة الحاكمة, بل على الشعوب المقهورة في كل مكان أيضا.

ثورة تونس هي الحجة اليوم على كل العرب. فكل الأعذار سقطت, وكل أوراق التين التي غطت عورات المعارضة الكاريكاتورية ومدعي العقلانية والتغيير المتدرج أيضا سقطت, وكل تبرير بعد اليوم ليس إلا تغييبا متعمدا للإرادة لا استحالة للممكن.

فتونس لم تسقط من السماء, وليست من غير طينة البشر. تونس قدمت النموذج لكل مضطهد وأصبحت الحجة على كل شعب. حجة تونس على الجميع "مصيرك بيدك".

لكن سيخرج, وخرج فعلا في بعض أقطار الاضطهاد, المشككون والطواويس ممن عاشوا على تبرير قهر أنظمة الاستبداد وامتهنوا تثبيط الهمم للحديث عن اختلافات الواقع وخصوصيات تونس واختلافها عن غيرها.

نظريات البؤس وأفكار العجز السخيفة هذه لن تنطلي على أحد بعد الآن, ومن يسوقها من الدجالين في كل مكان من أوطان العرب القابلة للانفجار لم يعتبر بعد بمن سقط من أقرانه الدجالين في ثورة تونس.

فمع سقوط الديكتاتور, سقط أيضا رجل أمن النظام الذي اعتاد انتهاك كرامة أبناء شعبه, وسقط صحفي دعاية النظام الذي امتهن التزوير والخداع, وسقط مثقف السلطان الذي اقتات على الفبركة والتبرير, وسقط رجل الإفتاء الذي حرم ما حل من تمرد على الظلم والقهر. هذا إلقاء النفس في التهلكة.

لن يكون غريبا, بل يجب أن يكون متوقعا استهداف روح الثورة لدى أهل تونس والعمل على جعلهم يدفعون ثمن تمردهم على الخضوع

"

لكن, الثورة في تونس هي بداية التحدي فقط, وليست نهايته. فسقوط الطاغية لا يعني الاستسلام النهائي لقوى محلية طفيلية وخارجية تقتات على البؤس والاضطهاد. فالديكتاتور لم يكن سوى ممثل لها وأداة لتحقيق مبتغاها.

هذه القوى الطفيلية ستعمل بجهد على استنساخ النظام البائد, فسوف تعمل كل القوى الظلامية في الغرب والشرق لإفراغ التجربة من معناها الهائل الدلالة والالتفاف عليها في محاولة استباق وإحباط تكرار التجربة في أمكنة أخرى.

ففكرة الثورة التونسية أكبر من حدود تونس الجغرافية, وهي تهدد كل من اعتقدوا بمناعة الأنظمة المستبدة المستندة لقمع أجهزة الأمن وحماية الخارج.

ولن يكون غريبا تكالب وتآمر كل من يرى في حرية بعض العرب خطرا وجوديا عليهم وعلى مصالحهم.

هكذا فعلت قوى الشر من عرب وعجم حين تكالبت وحاصرت غزة وجوعت أهلها بعد انتصار خيار المقاومة في صناديق الاقتراع في فلسطين. فتجويع غزة استهدف فيما استهدف كسر الذات العربية المقاومة وتطويع إرادتها المتمردة.

ولن يكون غريبا, بل يجب أن يكون متوقعا استهداف روح الثورة لدى أهل تونس والعمل على جعلهم يدفعون ثمن تمردهم على الخضوع. حين تنتهي الثورة, يبدأ تحدي الحفاظ عليها وحماية إنجازاتها.

 

من أجل سيرة معكوسة

لم تكتمل السير الهلالية, كما يبدو. فأبطال تونس يضيفون فصلا جديدا لكتبها, ويضيفون أبياتا جديدة مكتوبة بالدم للملحمة الشعرية العربية الطويلة وأبياتها المليون.

دم أبطال تونس وعبقرية ثورتهم سيكملان فصلا جديدا ومشرقا من قصة العرب الحقيقية والفولكلورية التي تربط أهل جزيرة العرب كلهم بأهل اليمن والشام والعراق ومصر وتونس والمغرب.

هذه المرة ستكون الهجرة معكوسة, وفكرة أبطال تونس, فكرة البوعزيزي هي التي سترحل شرقا حاملة بشارة الحرية لمن يستعد لدفع تكاليفها.

كنت "مضروبا بالسيرة", كما يسمي محبو السيرة الهلالية (الله يجازيك يا عم الأبنودي فقد ضربتنا بحب السيرة. وعذرا منك فتونس تقول اللي ببيع أمته خسران).

ومع ثورة البوعزيزي أصبحت كملايين العرب مضروبا بحب تونس وشعبها العبقري. ليت الرسالة التونسية تكون وصلت كل المظلومين العرب لتكتمل السيرة العربية.