الخميس، 3 مايو 2012

بن بلًة .. آخر العمالقة

بن بلّة..آخر العمالقة


عبد العزيز السيد*

أحمد بن بلّة الذي رحل في الحادي عشر من نيسان الجاري، هو آخر العمالقة من جيل القادة في النصف الثاني من القرن العشرين. عن عمر بلغ قرناً (96 عاماً بالتحديد ) فهو من مواليد الخامس والعشرين من شهر كانون الاول 1916، حياة أمضى صدرها في الجهاد لتحرير الجزائر واستقلالها الذي أنجز عام 1962، وتأسيس الدولة حتى أطاح به انقلابُ رفيق الكفاح والسلاح هواري بومدين 1965؛ فيما أمضى شطرها الآخر في السجن حتى رحيل بو مدين وإطلاق سراحه إبّان حكم الشاذلي بن جديد 1979، مبشراً بعد ذلك وحتى رحيله بتجربته ورؤاه في لبوس العصر، متمسكاً بثوابت الأمة لاسيما وحدتها وتحرير فلسطين والتآلف الوثيق بين العروبة الإسلام ومناهضة الظلم والاستعمار والصهيونية ينشرها بالإيمان والأمل والتحريض بالعمل، إذ رأى أنه لم يزل يسكن في الضمير الجزائري، ويعيش في الوجدان الإنساني خاصة العربي والإسلامي والأفريقي.
ولعل من يسأل- وذلك حقه- لمَ ندعوه بهذا اللقب الكبير، بل الكبير جداً (آخر العمالقة)؟ وبإيجاز نجيب: أليس العمالقة هم من قادوا أو شاركوا في قيادة كفاح شعوبهم ضد الاستعمار ووصلوا بها إلى الاستقلال؟!
أليسوا من انصرفوا بعد ذلك إلى مكافحة إرث الاستعمار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ثم انثنوا ينفضون الغبار عن هوية شعوبهم؟!
أليسوا من عُنوا بقضايا أمتهم تماماً كما عُنوا بقضية بلادهم؟!
أليسوا هم من انفتحوا على قضايا الحق والحريّة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ووقفوا نصيراً للمظلومين في وجه المستكبرين، وسنداً للمقاومة والمقاومين في وجه المستعمرين والطغاة؟!
أليسوا من اتسموا في حكمهم وسيرتهم بالتضحية والشجاعة كما بالنزاهة والنأي عن الفساد والاستبداد والتبعية؟!
وتركوا خلفهم بصمات الإنجاز في ذلك كله أو جُلّه، لتكون مسيرتهم منارة ومثلاً وقدوة؟!
لقد كان أحمد بن بّلة من هؤلاء.. وفي مناسبة رحيله نضيء على وقائع لعلها تؤكد هذا الذي ذهبنا إليه :
أحمد بن بلّة ولد ونشأ في الظلال السوداء لحكم المستعمر الفرنسي لوطنه الجزائر، في أسرة من الفلاحين الفقراء، وهم الأغلبية المسحوقة، الذين عدهم المستعمر مواطنين من الدرجة الثانية، صادر أرضهم ونهب ثرواتهم واستمتع بخيراتهم عبيداً أو كالعبيد، وغدوا يحرثون له ويزرعون ويحصدون أما هم فلا سكن ولا كساء، ولا تعليم ولا دواء، بل حتى ولا غذاء، فالجزائر- في قانون المستعمر- ليست بلداً عربيا، بل هي جزء من فرنسا بغلبة الاستعمار المحتل وبطشه والاستيطان وفحشه... وعلى ابن الجزائر واجبات المواطن الفرنسي ليست له حقوق، وفي صدر شباب بن بلّة كان عليه - المواطن الجزائري - أن يخوض غمار الحرب العالمية الثانية في جبهاتها الممتدة في أوروبا في سلك الجيش الفرنسي، لا دفاعاً عن الجزائر المفرنسة بالاحتلال، بل عن فرنسا القابعة هناك على الضفة الشمالية من البحر المتوسط، بل حتى مع قواتها الغازية للأقطار العربية الشقيقة في المشرق العربي : سورية ولبنان وسواها.
أحمد بن بلّة عاش هذه الحياة بكل أثقالها وعانى أوزارها، ثم انتسب إلى الحركات السياسية الوطنية التي تسعى إلى نيل حقوقها ( ديمقراطياً) ووقع في أحابيل الأحزاب وتطاحنها على المواقع والمناصب، فيما المواطن سادر عن ذلك، يغرق يوماً تلو يوم في الفقر والجوع والجهل والمرض محاصراً بالإذلال والقهر والبطش... يصحو بن بلّة ذات يوم من عام 1949 على " أيديولوجية "جديدة ليست بياناً حزبياً مكتوباً، ولا حجاجاً وجدالاً فكرياً أو فلسفياً، معمقاً أو مسطحاً...وذلك حين يتوجه إلى مواطن طحنته الأعوام ليقنعه بأن يُصوت إلى جانب حزبه، إذ لم يدخل المواطن معه في نقاش أو استفسار, بل اختزل الحكاية كلها بقوله : " يا بني هذا الذي تقول قد يحقق لنا تقدمات صغيرة، ولكن بعد قرن -وحينها سنكون جميعاً قد متنا- لا يا بني إن ما يلزمنا اليوم هو البنادق.
يمضي بن بلّة وقد لقحت في أعماقه بذرة الثورة، فيخرج هو وتسعة نفر من رفاقه في ذلك العام مصممين على الثورة, تغذِّيها في نفوسهم أيضاً تلك المذبحة الشهيرة سطيف (1945)، التي أزهق فيها الفرنسيون من الجزائريين أكثر مما أزهقت الحرب العالمية من أرواح الجزائريين (45) ألفا، لمجرد قيامهم برفع علم الجزائر في احتفال بالانتصار على النازية والفاشية، فكان ذلك هو جزاؤهم... يقرر بن بلّة ورفاقه مهاجمة بريد وهران للاستيلاء على ما فيه من أموال يستعينون بها في تمويل الثورة.. عملية تقود إلى اعتقاله لاحقاً، إلى أن استطاع الهرب بعدها من السجن، ليقصد مصر عام 1953، بعيد قيام ثورة يوليو 1952ببضعة شهور، وفيها يعاني وأصدقاؤه ضنك العيش، حتى أنهم أمضوا أربعة أشهر وطعامهم اليومي وجبة فول واحدة (ثمنها كما قال قرش واحد ).
في مصر التقى ثائر الجزائر بثوار مصر، هم يؤيدون الثورة، لكنما يختلفون معه في الرؤى، لذلك يرفض قبول التمويل منهم، ومن القاهرة يعلن بيان انطلاق الثورة في الأول من تشرين الثاني 1954، فيما تنطلق الرصاصة الأولى من ذرى الأوراس الأشم.
من القاهرة يدير بن بلّة الثورة سياسياً، ويهيئ لها الدعم والإسناد والدعم بالإعلام، والمال والسلاح، وهذه كلها عناصر متكاملة في فعل الثورة، إلا أن مصادرها الأساسية لم تكن كذلك، وكانت مناخات المنطقة في حينه معقدة بفعل سياسات الدول الاستعمارية: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تعصف بالمنطقة من خلال محاولات فرض المشاريع والأحلاف : النقطة الرابعة، حلف بغداد، ومبدأ أيزنهاور وبينهما النهوض القومي، والعدوان الثلاثي على مصر، سياسات فرّقت الأقطار العربية إلى حدّ التنافر والتنابذ، وفي حين كانت مصر ومن معها تقدم العون الأكبر للثورة الجزائرية، كان على الثورة أن تستقطب دعم الآخرين أيضاً من غير ما دخول في تلك الاصطفافات الحادة، وهنا تجلت عبقرية بن بلّة وصحبه الذين استقطبوا الأمة أنظمة وشعوباً، ولا أدل على ذلك من أن بلداً كالأردن، الذي كان على الضفة الأخرى من الموقف المصري لم يقتصر دعمه للثورة على ما كنا نقدمه، نحن أطفال وشباب تلك السنين من "تعريفة" أو قرش هي مصروف يومنا، ولا الحرفيون التجار والزرّاع، ولا استقبال طلاب جزائريين في دور المعلمين، بل بلغ إسهام الأردن أعلى مستوى وذلك بنقل السلاح للجزائر ( شباط 1955 )، على يخت الملكة دينا ملكة البلاد في حينه.. بل وعندما اكتشف الإسبان أمر اليخت بادرت الملكة إلى إبلاغ الإسبان أن استخدام يختها رُتّب بعلمها، ما يفهم منه أنه موقف الملك والنظام بالطبع.
ومن المحطات البارزة دوره في الثورة بعد وقوعه وبعض رفاقه في الأسر الفرنسي في 22 تشرين الاول عام 1956، قبيل العدوان الثلاثي على مصر بأسبوع واحد، في عملية قرصنة جوية شهيرة، وهم في طريقهم من المغرب إلى تونس، تلك العملية التي قادته إلى السجون ستة أعوام حتى توقيع اتفاقية إفيان للسلام مع فرنسا، فقد استطاع بصموده المذهل إدارة شؤون الثورة بكفاءة نادرة، وتمكن من تجاوز كل المناورات والمؤامرات والإغراءات والترهيبات التي واجهته من خلف القضبان، ففرض على الجميع: القيادات الجزائرية والحكومات الفرنسية حتى ديغول نفسه، أن لا يُبرَم الاتفاق إلا بعد موافقته، فخرج من ظلام السجن إلى فضاء الاستقلال. يختصر هذه السنوات العجاف بقوله " ليس كالسجن مكاناً شريفاً للمناضل السيئ الحظ، إنني اليوم أيضاً على استعداد للعودة إليه بدلاً من أن أخون القضية التي أخدمها".
كانت قبلتهم الأولى في العودة إلى الوطن بعد الرباط هي القاهرة، فهي التي من على ضفاف نيلها أعلن انطلاق الثورة في العالمين، وهي الشقيقة الكبرى التي كان دعمها اللامحدود للثورة هو - مع تأميم قناة السويس - أهم عاملين استدعيا العدوان الثلاثي عليها. كانت الزيارة واجب وفاء حمله بن بلّة ورفاقه، والجزائر كل الجزائر، لعبد الناصر ومصر، وظل يردد (وسمعتها منه في القاهرة قبيل بضعة أعوام ) "أنا ناصري، ناصري، وسأبقى كذلك وإلا لا أكون عربياً ولا جزائرياً". زار بعدها العراق، وبذلك مثلت زيارته تكامل الإقليم العربي جيوسياسياً.
بعد إجراء الاستفتاء العام الذي قرر الاستقلال، شكّل بن بلّة الحكومة الجزائرية الأولى في 27 أيلول 1962 فطوت الجزائر الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي امتدت قرناً وثلث القرن من الزمن (132 سنة)، طار بعدها بأيام إلى نيويورك يشهد تتويج جهاد شعبه برفع العلم الجزائري على سارية الأمم المتحدة إعلاناً عن الاعتراف الأممي بهذا الاستقلال.

* أمين عام المؤتمر العام للأحزاب العربية