الأربعاء، 19 ديسمبر 2012

لهذا اجتاحوا مخيم اليرموك

لهذا اجتاحوا مخيم اليرموك

رشاد أبو شاور

مخيم اليرموك يعاني الآن. فمن سبب معاناته؟!

كثيرون من أهله رحلوا عنه..فلماذا؟ من سبب رحيلهم، وتشردهم، وخوفهم؟! هذه هي الأسئلة التي أرى أنها تقودنا لمعرفة الحقيقة.

يذكر قراء 'القدس العربي' أنني كتبت مرارا عن مخيم اليرموك، منبها، ومصححا، ومتصديا لأكاذيب مروجي دعايات لا سند لها، بخلفيات مغرضة، محرضة، مشوهة للحقائق.

بدأت الهجمة على الفلسطينيين، لا على اليرموك وحده، بسلسلة عمليات اغتيال للمجندين الفلسطينيين، ولضباط جيش التحرير الفلسطيني، بمن فيهم أطباء أخصائيون نادرو الاختصاصات، شعبنا أحوج ما يكون لهم..فلماذا اغتيل هؤلاء؟!

عندما جرت محاولة اقتحام مجمع (الخالصة) التابع للجبهة الشعبية القيادة العامة، أثناء مسيرة تشييع شهداء محاولة العبور إلى فلسطين عبر الجولان في أيّار الماضي، كتبت عن حقيقة ما جرى، انطلاقا من حرصي على توصيل الحقيقة للقراء، وتفويتا للفرصة على ألعبانات السياسة، وتضليلهم لأبناء شعبنا، وتوظيفهم للدم الفلسطيني لخدمة مآربهم غير النزيهة، التي تفتقد للأخلاق، والصدق.

طرحت السؤال مرارا: ماذا يدبّر للفلسطينيين، وكنت أعرف أن القراء، بفطنتهم، سيتوصلون للجواب دون عناء، وكد للذهن.

والآن، وأهلي في مخيم اليرموك يتشردون من جديد، ويهيمون على وجوههم، ولا يعرفون إلى أين يحملون أطفالهم للنجاة بهم، أقول: هذا ما خطط لمخيم اليرموك!

من يتأمل خارطة مدينة دمشق سيتضح له موقع المخيم جغرافيا، فهو يصل بين عدة أحياء: التضامن، العروبة، الحجر السود، القدم، الميدان، يلدا، وأنحاء واسعة من الغوطة الشرقية.

الأمر الثاني: من ركزوا هجماتهم على المخيم، منذ عدة أشهر، وفي الأيام الماضية، هدفوا إلى جعل المخيم أرض معركة، بحيث يضطر الجيش السوري أن يقاتل لاستعادة هذا الموقع الهام، وهو ما يعني جعل المخيم مادة إعلامية تشهيرية بالنظام، وهكذا يستخدم المخيم (ورقة)، دون اهتمام بمصير سكانه، وما يصيبهم، وما سيتعرضون له من تشرد، ومن خسائر بشرية مكلفة..تصوروا أن أمريكا تشفق على الفلسطينيين، وتحمّل السلطات السورية مسؤولية حمايتهم؟! يبدو أنها استجابت لمناشدات ياسر عبد ربه للمجتمع الدولي للتدخل لمعاقبة النظام السوري الخطر على جيرانه!

لا توجد في مخيم اليرموك مواقع عسكرية للنظام، ولم يتحرك أحد من المخيم للدفاع عن النظام، فكل أهل المخيم التزموا بعدم التدخل، والبقاء على الحياد، احتراما لسورية الوطن الذي احتضنهم، وللشعب الذي عاملهم بأخوة عربية منذ نكبة 1948.

ثلاثة أيام والقصف متواصل على المخيم، بالترافق مع محاولات الاقتحام، مرة من جهة حي التضامن، ومرة عبر الحجر الأسود..إلى أن اندفع ألوف المسلحين عبر حي العروبة، والتضامن، ويلدا، والحجر الأسود، بعد ظهر يوم الأحد الماضي، وبدأوا محاصرة بعض بيوت القادة الفلسطينيين، واقتحام المنازل، ومحاصرة مجمع الخالصة، الذي تدور حوله اشتباكات حتى اللحظة، فالعدد القليل من العاملين في المجمّع رفضوا الاستسلام، وتمكين المهاجمين من احتلال المجمع.

لماذا مطلوب من رجال يقومون بعملهم في الخدمة الاجتماعية، والصحية، والتعليمية..أن يستسلموا؟ هل في هذا النشاط عدوان على أي طرف في سورية؟!

لقد ثبت أن بعض من انضموا للجان الشعبية للحفاظ على المخيم، هم من فتحوا ثغرة في خاصرة المخيم ليندفع عبرها مسلحو جماعة النصرة، والجيش الحر..ولا عجب، فقد تمكنت (النصرة) من استقطاب بعض الأشخاص الذين بلغ بهم الأمر أن يسهموا في تفخيخ سيارات انفجرت بالمواطنين السوريين في منطقة القزاز وغيرها، وأن يضحي أحدهم بنفسه في ذلك التفجير الانتحاري!

لا عجب أن يظهر من بين صفوف الشعب الفلسطيني من ينضم لهذه المجموعات، فمن قبل بلغ الأمر ببعض الفلسطينيين أن توجهوا من مخيمات الأردن وسورية ولبنان..للجهاد في أفغانستان، بينما القدس على مبعدة كيلو مرات قليلة!

مخيم اليرموك قدم ألوف الفدائيين في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولكنه خال إلى حد بعيد من السلاح، وبقايا الفدائيين يتواجدون في لبنان، وينتظرون أن تأتي اللحظة التي يسهمون فيها في تحرير وطنهم، وهو الهدف الذي منحوه شبابهم، ومن أجله حملوا السلاح!

يوم الأحد اندفع ألوف المسلحين واجتاحوا مخيم اليرموك، ولم يتصد لهم سوى عدد قليل من أعضاء اللجان الشعبية، الذين كانت مهمتهم ضبط مداخل المخيم، بحيث لا تتسرب سيارات مفخخة، ومنعا لاختراق أمن المخيم من أي جهة كانت.

الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، استجابت لدعوات أهل المخيم لتشكيل لجان التنسيق لحماية أمن المخيم، وتحملت العبء الأكبر في صون أمن المخيم، بينما اتخذت تنظيمات أخرى مواقف انتهازية رخوة، ولم تبد اهتماما بما يتهدد أهل المخيم، بعد أن ظهر ما يدلل على اختراق تنظيمي (للنصرة) في المخيم.

 الجبهة الشعبية_ القيادة العامة، تستحق التقدير لتحملها عبء الدفاع عن المخيم، وهي تتعرض لحملة افتراء إعلامية مضللة، يمكن كشف خلفياتها بمجرد طرح الأسئلة التالية: هل خرج أعضاء القيادة العامة، وقاتلوا خارج المخيم؟! هل الدفاع عن المخيم مدان، وغير مسموح به، وانحياز للنظام؟ هل المطلوب من الفلسطيني أن يُسهّل عملية تحويل المخيم إلى أرض معركة، بحيث يكون هو وقودها؟!.

 أنا أعرف أن بعض أبناء المخيم يخوضون الآن مواجهات مع من استباحوا المخيم، واستهدفوه طيلة الأيام الماضية بالقصف المتواصل، والقنص اليومي، وعمليات ألإغارة المستمرة ليلاً ونهار، بهدف إحباط نفوس أهل المخيم، وترويعهم، ودفعهم لإخلاء المخيم..وهذا واجبهم، وحقهم في الدفاع عن النفس.

 أود أن أنبه القراء إلى أنني لا أنتمي لأي فصيل فلسطيني، منذ خرجت من بيروت عام 1982، ولذا فشهادتي غير منحازة للقيادة العامة، أو غيرها، ولكنها شهادة تحت القسم، كما يقال في قاعات المحاكم، فأنا ككاتب لن أعير ضميري، ولن أغمط أحدا حقه، ولن أتلاعب بالحقيقة، لأن الهدف الأسمى للكتابة، كما آمنت به دائما، هو: قول الحقيقة، والانحياز لفلسطين، والإيمان بوحدة الأمة، والدعوة باستمرار لمقاومة الاحتلال الصهيوني، والدفاع عن كرامة الإنسان العربي، ومحاربة الهيمنة الأمريكية على بلاد العرب، وانحيازها للكيان الصهيوني، وفضح (ثقافة) النفط التخريبية التي تشق صفوف الأمة بإثارة صراع ديني طائفي خدمة لمآرب حكام الجهل والتبعية، وأسيادهم الأمريكان...

حتى يعرف القراء هدف الهجوم على مخيم اليرموك، أحيلهم على تصريح لأحد قادة الإئتلاف الوطني، وهو جورج صبرا، لقناة العربية: المخيم أرض سورية، ولن يمنعنا أحد من دخول مخيم اليرموك، لأن هذا يهيئ لحسم معركة دمشق!

الجنرال جورج صبرا، الرفيق الشيوعي سابقا، (الأخ) حاليا، لا يأبه بمصير قرابة مئتي ألف فلسطيني!..وهو يتناسى أن النظام لن يسمح بالاستيلاء على المخيم لأهمية موقعه، وهكذا سيتحول المخيم إلى أرض محروقة مدمرة، وربما، أقول: وربما يا سيد جورج، وأنت تستعين وتقاتل بقوات جبهة النصرة، لا تكون معركة دمشق سوى صبّا للمزيد من الوقود على النار التي ستحرق أهل دمشق، وليس مخيم اليرموك وحده، وبهدف تأسيس دولة (الخلافة) الموعودة.. يا رفيق!

 مخيم اليرموك بنته أجيال من الفلسطينيين بالكد، والكفاح، والعمل الدؤوب، حتى صار سوقا جاذبا لفلاحي الغوطة الذين يسوقون خضارهم، وفاكهتم، ويتسوقون فيه، وهو رد الجميل لأهل الشام باستقبال مئات العائلات التي هربت من الحريق الذي دمر قراهم..فهل هكذا يكافأ؟!

الجيش الحر، والنصرة، والاخوان المسلمون، كلهم يتحملون وزر جريمة (اغتيال) مخيم اليرموك..هذه الجريمة التي لن ينساها شعبنا، وشرفاء أمتنا.


الأربعاء، 17 أكتوبر 2012

منظمة التحرير وهي تحتضر..

منظمة التحرير وهي تحتضر..

خالد بركات

لا يُجادل اثنان في الشعب الفلسطيني حول ضرورة البدء بإجراء عملية إصلاح واسعة وشاملة في منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة الاعتبار لميثاقها الوطني، وتنظيف هيئاتها ومؤسساتها واتحاداتها الشعبية، ذلك لأن المنظمة شارفت على الموت والذهاب إلى عالم النسيان، سيكون حالها في ذلك، حال هيئات فلسطينية، من الماضي، وقد كانت تملأ الدنيا ثم تلاشت وطوى سيرتها النسيان ولم يعد يذكرها أحد إلا من يبحث في التاريخ، خاصة تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، طوال قرن من الزمان.

واليوم، بعد تجربة مريرة مع مسار الوهم والتفاوض، تجربة قوامها العذاب والدم والأوهام والانقسام، وصار عمرها حوالي 20 عاما، وبعد آثار ونتائج " اتفاق أوسلو" الكارثي والشهير، يسأل الفلسطيني عن الممثل الشرعي والوحيد فلا يجد له عنوان ولا طريق. بل يذهب السؤال الفلسطيني الشعبي إلى ما هو أبعد: هل يمكن إصلاح المنظمة وضخ الأكسجين في روحها الميتة أصلا؟ وإذا كان الجواب نعم، فهل يمكن القيام بذلك وبمشاركة نفس الأدوات والهياكل والمناهج التي كانت سببا في تدميرها وتخريبها ونهبها وتقزيمها؟ بل إننا اليوم نسمع أصوات فلسطينية (ونحن معها) تُطالب بمحاكمة من تسببوا في تدمير المنظمة، حتى وصلت أوضاعها وأحوالها إلى درجة الهلاك والدرك الأسفل وشارفت على الموت.

فلم يعد مقبولا أن يكون رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير هو الرجل الذي وقع اتفاق أوسلو، ولا يجوز أبدا قبول السيد ياسر عبد ربه، أمينا على سر اللجنة التنفيذية، فيما يصفه القنصل الأمريكي شخصيا أنه "شخص ثرثار" و "مريب"، كما تخبرنا وثائق ويكيليكس، وهو الرجل الذي هندس اتفاقية جنيف سيئة الصيت والسمعة مع شريكه الصهيوني يوسي بيلين. ويمكن أن نسرد عشرات ومئات الأمثلة على عشرات الشخصيات التي تسببت في خسائر فادحة للشعب الفلسطيني، وعرضت حقوقه وقضيته للضياع والتبديد، وقادت "الساحة الفلسطينية" إلى حالة غير مسبوقة من السقوط الأخلاقي والسياسي والوطني، حتى باتت رائحة المؤسسة الفلسطينية تزكم أنف الشعب، وتشبه الفضيحة الكبرى في تاريخه العاثر. إذ كيف يقبل شعب فلسطين، وهو الذي علم الشعوب معنى التمرد والانتفاضة، يقبل في قيادة لا تجلب له سوى الفضيحة والتيه والعار؟

 

اليوم، بات المثقفون الثوريون من أبناء وبنات شعبنا الفلسطيني، مطالبين بقول الحقيقة للناس، وإعلان موقف واضح من أحوال المنظمة، والمشاركة في الدعوة إلى إعلاء الصوت. مطلوب القول "كفى لتغول السلطة الفلسطينية وبرنامجها على الشعب". كفى للأوهام.. كفى للانقسام والشرذمة. ومطلوب أيضا أن تتحمل الأحزاب والقوى الفلسطينية والشخصيات الوطنية الوازنة، في فلسطين المحتلة والشتات، مسؤولية كبيرة، وأن لا يستعمي أحد ويتظاهر أنه لا يرى ولا يسمع. لقد آن أوان عقد ورشة عمل وطنيه تدق جدران الخزان و تحقق حوارا فلسطينيا شعبيا، يبدأ من القاع، من الشارع، من حيفا إلى مخيم الرشيدية وصولا إلى البرازيل، يقوم الشباب الفلسطيني بدور قيادي وأساسي في إطلاقه وفي حمايته أيضا.

لم نعد بحاجة للتدليل والبرهان على أن حالة التشظي والتفكك التي وصلت إليها م. ت. ف إنما هي سمة من سمات المرحلة التي أعقبت أوسلو. بل إن هذا الاتفاق الشؤم كان نتيجة لأوضاع الاعتلال والاختلال في المنظمة، كما لم نعد بحاجة للبرهان والدليل على أن السلطة الفلسطينية التي بدأت "ذراعا" للمنظمة، تغولت على الشعب والمنظمة وبلعت هذه الأخيرة لصالح برنامجها. واليوم، نجد المنظمة وسفاراتها وبعثاتها في العالم تقيم علاقات مع سفارات الكيان الصهيوني والوكالة اليهودية ولا تلتفت إلى أحوال الجاليات الفلسطينية، بل تعتبرهم "عبئا" عليها. وهي سفارات لا دور لها ولا وظيفة إلا عقد الولائم واستقبال "الوفود" والتطبيع.

نحن نضم صوتنا للدعوة التي أطلقها الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القائد الأسير أحمد سعدات بالخروج إلى الشارع لتنظيم أكبر كتلة شعبية ضاغطة من كل فئات وقوى الشعب الفلسطيني، وعلى امتداد الوطن والشتات، لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية واقعا على الأرض، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية الفلسطينية التي تجمع ولا تفرق والتي ترى الكل ولا تستثني تجمعا فلسطينيا واحدا. وهذه دعوة من زنازين الكيان العنصري وتمثل ضمير الحركة الوطنية الأسيرة، وأكد عليها أيضاً الدكتور رمضان عبد الله أمين عام حركة الجهاد الإسلامي في ذكرى انطلاقة الجهاد مؤخرا، حيث أشار إلى إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني برمته وليس فقط المؤسسة (المنظمة) حتى نضمن أن تكون المنظمة جبهة وطنية فلسطينية موحدة، لها برنامج ورؤية، وتضم كل قوى الشعب، وتقاتل من أجل حقوقه وتمثله في العالم، دون اغتصاب للقرار السياسي أو الهيمنة عليه.

خلاصة القول: الشعب الفلسطيني هو مرجعية كل المرجعيات. فلا تمتحنوا صبره أكثر مما يجب، لا صوت يعلو فوق صوت الشعب الفلسطيني.

 

الخميس، 3 مايو 2012

بن بلًة .. آخر العمالقة

بن بلّة..آخر العمالقة


عبد العزيز السيد*

أحمد بن بلّة الذي رحل في الحادي عشر من نيسان الجاري، هو آخر العمالقة من جيل القادة في النصف الثاني من القرن العشرين. عن عمر بلغ قرناً (96 عاماً بالتحديد ) فهو من مواليد الخامس والعشرين من شهر كانون الاول 1916، حياة أمضى صدرها في الجهاد لتحرير الجزائر واستقلالها الذي أنجز عام 1962، وتأسيس الدولة حتى أطاح به انقلابُ رفيق الكفاح والسلاح هواري بومدين 1965؛ فيما أمضى شطرها الآخر في السجن حتى رحيل بو مدين وإطلاق سراحه إبّان حكم الشاذلي بن جديد 1979، مبشراً بعد ذلك وحتى رحيله بتجربته ورؤاه في لبوس العصر، متمسكاً بثوابت الأمة لاسيما وحدتها وتحرير فلسطين والتآلف الوثيق بين العروبة الإسلام ومناهضة الظلم والاستعمار والصهيونية ينشرها بالإيمان والأمل والتحريض بالعمل، إذ رأى أنه لم يزل يسكن في الضمير الجزائري، ويعيش في الوجدان الإنساني خاصة العربي والإسلامي والأفريقي.
ولعل من يسأل- وذلك حقه- لمَ ندعوه بهذا اللقب الكبير، بل الكبير جداً (آخر العمالقة)؟ وبإيجاز نجيب: أليس العمالقة هم من قادوا أو شاركوا في قيادة كفاح شعوبهم ضد الاستعمار ووصلوا بها إلى الاستقلال؟!
أليسوا من انصرفوا بعد ذلك إلى مكافحة إرث الاستعمار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ثم انثنوا ينفضون الغبار عن هوية شعوبهم؟!
أليسوا من عُنوا بقضايا أمتهم تماماً كما عُنوا بقضية بلادهم؟!
أليسوا هم من انفتحوا على قضايا الحق والحريّة والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ووقفوا نصيراً للمظلومين في وجه المستكبرين، وسنداً للمقاومة والمقاومين في وجه المستعمرين والطغاة؟!
أليسوا من اتسموا في حكمهم وسيرتهم بالتضحية والشجاعة كما بالنزاهة والنأي عن الفساد والاستبداد والتبعية؟!
وتركوا خلفهم بصمات الإنجاز في ذلك كله أو جُلّه، لتكون مسيرتهم منارة ومثلاً وقدوة؟!
لقد كان أحمد بن بّلة من هؤلاء.. وفي مناسبة رحيله نضيء على وقائع لعلها تؤكد هذا الذي ذهبنا إليه :
أحمد بن بلّة ولد ونشأ في الظلال السوداء لحكم المستعمر الفرنسي لوطنه الجزائر، في أسرة من الفلاحين الفقراء، وهم الأغلبية المسحوقة، الذين عدهم المستعمر مواطنين من الدرجة الثانية، صادر أرضهم ونهب ثرواتهم واستمتع بخيراتهم عبيداً أو كالعبيد، وغدوا يحرثون له ويزرعون ويحصدون أما هم فلا سكن ولا كساء، ولا تعليم ولا دواء، بل حتى ولا غذاء، فالجزائر- في قانون المستعمر- ليست بلداً عربيا، بل هي جزء من فرنسا بغلبة الاستعمار المحتل وبطشه والاستيطان وفحشه... وعلى ابن الجزائر واجبات المواطن الفرنسي ليست له حقوق، وفي صدر شباب بن بلّة كان عليه - المواطن الجزائري - أن يخوض غمار الحرب العالمية الثانية في جبهاتها الممتدة في أوروبا في سلك الجيش الفرنسي، لا دفاعاً عن الجزائر المفرنسة بالاحتلال، بل عن فرنسا القابعة هناك على الضفة الشمالية من البحر المتوسط، بل حتى مع قواتها الغازية للأقطار العربية الشقيقة في المشرق العربي : سورية ولبنان وسواها.
أحمد بن بلّة عاش هذه الحياة بكل أثقالها وعانى أوزارها، ثم انتسب إلى الحركات السياسية الوطنية التي تسعى إلى نيل حقوقها ( ديمقراطياً) ووقع في أحابيل الأحزاب وتطاحنها على المواقع والمناصب، فيما المواطن سادر عن ذلك، يغرق يوماً تلو يوم في الفقر والجوع والجهل والمرض محاصراً بالإذلال والقهر والبطش... يصحو بن بلّة ذات يوم من عام 1949 على " أيديولوجية "جديدة ليست بياناً حزبياً مكتوباً، ولا حجاجاً وجدالاً فكرياً أو فلسفياً، معمقاً أو مسطحاً...وذلك حين يتوجه إلى مواطن طحنته الأعوام ليقنعه بأن يُصوت إلى جانب حزبه، إذ لم يدخل المواطن معه في نقاش أو استفسار, بل اختزل الحكاية كلها بقوله : " يا بني هذا الذي تقول قد يحقق لنا تقدمات صغيرة، ولكن بعد قرن -وحينها سنكون جميعاً قد متنا- لا يا بني إن ما يلزمنا اليوم هو البنادق.
يمضي بن بلّة وقد لقحت في أعماقه بذرة الثورة، فيخرج هو وتسعة نفر من رفاقه في ذلك العام مصممين على الثورة, تغذِّيها في نفوسهم أيضاً تلك المذبحة الشهيرة سطيف (1945)، التي أزهق فيها الفرنسيون من الجزائريين أكثر مما أزهقت الحرب العالمية من أرواح الجزائريين (45) ألفا، لمجرد قيامهم برفع علم الجزائر في احتفال بالانتصار على النازية والفاشية، فكان ذلك هو جزاؤهم... يقرر بن بلّة ورفاقه مهاجمة بريد وهران للاستيلاء على ما فيه من أموال يستعينون بها في تمويل الثورة.. عملية تقود إلى اعتقاله لاحقاً، إلى أن استطاع الهرب بعدها من السجن، ليقصد مصر عام 1953، بعيد قيام ثورة يوليو 1952ببضعة شهور، وفيها يعاني وأصدقاؤه ضنك العيش، حتى أنهم أمضوا أربعة أشهر وطعامهم اليومي وجبة فول واحدة (ثمنها كما قال قرش واحد ).
في مصر التقى ثائر الجزائر بثوار مصر، هم يؤيدون الثورة، لكنما يختلفون معه في الرؤى، لذلك يرفض قبول التمويل منهم، ومن القاهرة يعلن بيان انطلاق الثورة في الأول من تشرين الثاني 1954، فيما تنطلق الرصاصة الأولى من ذرى الأوراس الأشم.
من القاهرة يدير بن بلّة الثورة سياسياً، ويهيئ لها الدعم والإسناد والدعم بالإعلام، والمال والسلاح، وهذه كلها عناصر متكاملة في فعل الثورة، إلا أن مصادرها الأساسية لم تكن كذلك، وكانت مناخات المنطقة في حينه معقدة بفعل سياسات الدول الاستعمارية: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا التي تعصف بالمنطقة من خلال محاولات فرض المشاريع والأحلاف : النقطة الرابعة، حلف بغداد، ومبدأ أيزنهاور وبينهما النهوض القومي، والعدوان الثلاثي على مصر، سياسات فرّقت الأقطار العربية إلى حدّ التنافر والتنابذ، وفي حين كانت مصر ومن معها تقدم العون الأكبر للثورة الجزائرية، كان على الثورة أن تستقطب دعم الآخرين أيضاً من غير ما دخول في تلك الاصطفافات الحادة، وهنا تجلت عبقرية بن بلّة وصحبه الذين استقطبوا الأمة أنظمة وشعوباً، ولا أدل على ذلك من أن بلداً كالأردن، الذي كان على الضفة الأخرى من الموقف المصري لم يقتصر دعمه للثورة على ما كنا نقدمه، نحن أطفال وشباب تلك السنين من "تعريفة" أو قرش هي مصروف يومنا، ولا الحرفيون التجار والزرّاع، ولا استقبال طلاب جزائريين في دور المعلمين، بل بلغ إسهام الأردن أعلى مستوى وذلك بنقل السلاح للجزائر ( شباط 1955 )، على يخت الملكة دينا ملكة البلاد في حينه.. بل وعندما اكتشف الإسبان أمر اليخت بادرت الملكة إلى إبلاغ الإسبان أن استخدام يختها رُتّب بعلمها، ما يفهم منه أنه موقف الملك والنظام بالطبع.
ومن المحطات البارزة دوره في الثورة بعد وقوعه وبعض رفاقه في الأسر الفرنسي في 22 تشرين الاول عام 1956، قبيل العدوان الثلاثي على مصر بأسبوع واحد، في عملية قرصنة جوية شهيرة، وهم في طريقهم من المغرب إلى تونس، تلك العملية التي قادته إلى السجون ستة أعوام حتى توقيع اتفاقية إفيان للسلام مع فرنسا، فقد استطاع بصموده المذهل إدارة شؤون الثورة بكفاءة نادرة، وتمكن من تجاوز كل المناورات والمؤامرات والإغراءات والترهيبات التي واجهته من خلف القضبان، ففرض على الجميع: القيادات الجزائرية والحكومات الفرنسية حتى ديغول نفسه، أن لا يُبرَم الاتفاق إلا بعد موافقته، فخرج من ظلام السجن إلى فضاء الاستقلال. يختصر هذه السنوات العجاف بقوله " ليس كالسجن مكاناً شريفاً للمناضل السيئ الحظ، إنني اليوم أيضاً على استعداد للعودة إليه بدلاً من أن أخون القضية التي أخدمها".
كانت قبلتهم الأولى في العودة إلى الوطن بعد الرباط هي القاهرة، فهي التي من على ضفاف نيلها أعلن انطلاق الثورة في العالمين، وهي الشقيقة الكبرى التي كان دعمها اللامحدود للثورة هو - مع تأميم قناة السويس - أهم عاملين استدعيا العدوان الثلاثي عليها. كانت الزيارة واجب وفاء حمله بن بلّة ورفاقه، والجزائر كل الجزائر، لعبد الناصر ومصر، وظل يردد (وسمعتها منه في القاهرة قبيل بضعة أعوام ) "أنا ناصري، ناصري، وسأبقى كذلك وإلا لا أكون عربياً ولا جزائرياً". زار بعدها العراق، وبذلك مثلت زيارته تكامل الإقليم العربي جيوسياسياً.
بعد إجراء الاستفتاء العام الذي قرر الاستقلال، شكّل بن بلّة الحكومة الجزائرية الأولى في 27 أيلول 1962 فطوت الجزائر الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي امتدت قرناً وثلث القرن من الزمن (132 سنة)، طار بعدها بأيام إلى نيويورك يشهد تتويج جهاد شعبه برفع العلم الجزائري على سارية الأمم المتحدة إعلاناً عن الاعتراف الأممي بهذا الاستقلال.

* أمين عام المؤتمر العام للأحزاب العربية

الخميس، 26 أبريل 2012

القدس تجمعنا . . . لا تجعلوها فتنة بيننا


القدس تجمعنا . . . لا تجعلوها فتنة بيننا

عبد العزيز السيد

 

وليس يصّح في الأفهام شيءٌ                 إذا احتاج النهار إلى دليل

المتنبي

 

على امتداد تاريخ الصراع العربي الصهيوني، بل وعلى امتداد التاريخ كله، كانت القدس الشعلة التي توقد المواجهات والانتفاضات الفلسطينية، منذ مواسم النبي موسى وثورة البراق المجيدة وحتى انتفاضة الأقصى، إلى عمليات الاستشهاديين والاستشهاديات.

كلما أصابها عدوان تنادى العرب والمسلمون إلى عقد المؤتمرات لحفظ عروبتها وصون هويتها، ودرء العدوان عنها، ومع أنّ هذه المؤتمرات والحراكات كانت أعجز من أن تحقق إنجازات تليق بالقدس ومكانتها وواجب تحريرها، إلا أنّ أحداً لم يستطع أو يجرؤ على إعلان التفريط بها أو التنازل عن ذرّة من ترابها، فقط هو السادات الذي انتهك حرمات الصراع العربي الصهيوني وخان الدم المصري وكل دماء وتضحيات الأجيال حين أقدم على زيارته المشؤومة لها، وهي زيارة أكد قادة فلسطين في حينه رفضها كما رفضتها الأمّتان العربية والإسلامية.

قادة فلسطين منذ بدأ الصراع المعاصر على فلسطين عَضّوا على القدس بالنواجذ.

الحاج أمين الحسيني حشد لها المسلمين من أقاصي الأرض وعقد لها المؤتمر الإسلامي الكبير 1931 حينما هُدّد حائط البراق الشريف.

أحمد الشقيري عقد فيها على ذرى جبل الزيتون المؤتمر الفلسطيني الذي أسس منظمة التحرير الفلسطينية وافتتحه الملك الراحل الحسين رحمه الله تأكيداً على أن القدس هي عاصمة فلسطين. ياسر عرفات لم تشفع له أوسلو المُذلّة وظل يردد مقولته الإيمانية الاستراتيجية : سيرفع شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتها علم فلسطين على الأقصى والقيامة فقضى شهيداً لأنه أبى في كامب ديفيد التنازل عن القدس.

كامب ديفيد الأولى قتلت السادات لأنه خان القدس وكامب ديفيد الثانية أودت بعرفات شهيداً لأنه لم يفرط بها. وأشهد أنه قال لي غداة زيارة السادات للقدس ردّاً على سؤال يتعلق بالزيارة والاختراق الساداتي: "تسوية بدون القدس ، خطيئة تقتل صاحبها".

وقد وعينا صغاراً على مقولة المرحوم الملك عبد الله شُلّت يميني إن نسيت القدس أو نسيتك يا فلسطين، وعلى عتبات الأقصى قضى رحمه الله.

وعشنا نسمع المرحوم الملك فيصل بن عبد العزيز يرد على اقتراحات كسنجر لحلّ القضية الفلسطينية ينهي اللقاء بسؤاله :هل يحقق لي ما تقول الصلاة في المسجد الأقصى –أي هل يحرّر القدس . . ! وأخيراً مضى شهيداً دون القبول بحلْ لا يعيد الأقصى.

أما فلسطينياً فالحديث عن القدس طويل طويل، فمنذ دخل دايان إلى باحات الأقصى غداة احتلال عام 1967 تداعى رجالات المدينة وأسسوا الهيئة الإسلامية العليا التي صدت محاولات الهيمنة على الشأن الإسلامي  المسيحي تحت عباءة وزارة الأديان الصهيونية، وطرح رئيسها الأول المرحوم الشيخ عبد الحميد السائح الشعار الذي ما زال صرخة كل المقدسيين مسلمين ومسيحيين : لا صلاة تحت حراب الاحتلال.

ومنذ ذلك الحين حظر الراحل الكبير البابا شنودة الصلاة تحت حراب الاحتلال أيضاً.

ولن نذهب بعيداً ففي يوم الأرض من هذا العام تنادى الملايين لنصرة القدس، في وقفات مشهودة شارك فيها أنصار القدس وفلسطين من قارات العالم أحاطت بثغور فلسطين كالسوار بالمعصم تقول :

"القدس عاصمة فلسطين والعرب والمسلمين"

وفي ذلك اليوم المجيد، يوم الأرض، يوم الزحف المليوني لنصرة القدس يطلق رئيس السلطة الفلسطينية للمرة الثانية دعوته في قمة بغداد لكي يزور العرب والمسلمون القدس تحت حراب الاحتلال، وكان من قبل أطلقها في مؤتمر لنصرة القدس في الدوحة . . .

والآن وقد شهدنا زيارة الداعية اليمني الجفري والمفتي المصري جمعة للقدس لا تحت حراب الاحتلال وحسب بل وبإذن الاحتلال وحمايته (نفى ذلك الداعية اليمني والمفتي المصري إلا أن الاحتلال أكد ذلك وأهل القدس كذلك).

وثار الجدل الفقهي والديني . . . وبعيداً عن الانغماس في هذا الجدل، أفلا يجدر بنا أن نرى ونتأمل أن الزيارتين ترافقتا مع قرار الاحتلال منع خطيب الأقصى من دخول الأقصى الشيخ عكرمة صبري وقرار الاحتلال بمنع شيخ الأقصى رائد صلاح من دخول القدس والأقصى.

يا قوم إن اختلفت الأمة على القدس، فعلام ستجتمع...ألا تكفي فلسطين فتن الخلافات السياسية ... ألا تكفي القدس آلامها ...

 يا أيها الإنسان استمع لصوت الإنسان في القدس: الشهيد والأسير والصامد، أهلها هم وحدهم ضميرها الناطق باسمها في الأقصى والقيامة.

 دعوا القدس تجمعنا ... ولا تجعلوها فتنة بيننا ...فالقدس لن ترحم منا أحداً.

 

الأربعاء، 25 أبريل 2012

لا للتطبيع بأي شكل أو مبرر

للمفارقة، في ذات الوقت الذي دخل فيه علي جمعة مفتي الديار المصرية الأقصى برعاية أردنية وموافقة صهيونية ليسجل على نفسه وتاريخه قيامه بأكبر عمل تطبيعي منذ اتفاقيات كامب ديفيد، كانت سلطات الاحتلال الصهيوني تصدر قراراً تمنع فيه الشيخ عكرمة صبري شيخ الأقصى وخطيبه من دخول الأقصى الشريف لمدة شهرين. وكذلك تمنع الشيخ رائد صلاح من دخوله وتحدد أعمار من يحق له الدخول لأداء صلاة الجمعة. خبث الصهاينة ليس له حدود. هذه المفارقة أهديها لكل من يظن أن المفتي دخل القدس والأقصى دون موافقة سلطات الاحتلال الصهيوني التي تتحكم بكل شاردة وواردة في الحرم القدسي الشريف. أفيقوا يا عرب، القدس تحتاج الدعم بالمال والرجال وليس لزيارات لا تسمن ولا تغني من جوع.