الأحد، 7 مارس 2010

الشقيري.. الدبلوماسي الثائر في ذكرى رحيله

 
عبد العزيز السيد
 

          يمكن أن نختصر دور الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة، كما أعلن عنه غداة تأسيسها بعد الحرب العالمية الثانية، بأنها "قصر العدل" أو "دار القضاء العالي" أو الأعلى الدولي الذي ستجد فيه الشعوب المظلومة ساحة لإنقاذها من ظلم واقع عليها أو للحصول على حقوقها المسلوبة.

 

وأحسب أن هذا التبسيط لا يجافي حقيقة الأهداف المعلنة للأمم المتحدة التي أوجزت في المحافظة على السلم العالمي، وحمايته مما يتهدده وإنقاذه من الاعتداءات عليه.

 

          ومن خلال هذا التوصيف فإن قصر العدل أو دار القضاء، تحتاج في دوائرها المختلفة إلى مُدّعين عامّين ومحاميي دفاع فضلاً عن قضاة، إضافة إلى الأجهزة المساندة الأخرى، "طبعاً تجاوزت مجالات الاهتمام في مسيرة المنظمة، على مدى ثلثيْ القرن من عمرها ما ذكرنا". ووفق ما سبق، فإن كل صاحب قضية يتجه إلى المحكمة، مشتكياً، أو مشتكى عليه، يسعى لاختيار من يراه أقدر محامٍ، والقدرة هنا تشمل في المقام الأول:- التمكن من الفقه القانوني، مستوى الإلمام بدقائق القضية، وامتلاك ناصية البيان، النزاهة والاستقامة..الخ

 

          وقد كانت القضية الفلسطينية من أهم القضايا التي ورثتها هيئة الأمم المتحدة عن سالفتها عصبة الأمم التي أسست بعد الحرب العالمية الأولى، ولفظت أنفاسها كضحية-غير مأسوف عليها- من ضحايا الحرب العالمية الثانية.

 

          وقد تزامن مع تأسيس هيئة الأمم (دولياً) قيام جامعة الدول العربية(عربياً). وكانت القضية الفلسطينية البند الأول على جدول أعمال الجامعة ولما تزل بالطبع، كما كانت مقيمة، حاضرة أو مغيّبة، في ردهات الأمم المتحدة. وإذ فلسطين ليست دولة عضواً في الجامعة عند تأسيسها، فكان على الجامعة أن تختار أفضل من تأنس فيه القدرة على المنافحة عن القضية الفلسطينية،وعرض الموقف العربي منها في الأمم المتحدة، فوقع الاختيار على أحمد الشقيري الذي تتوافر فيه المؤهلات والقدرات التي أشرنا إليها قبلاً. ومن خلال تمثيله الجامعة وسورية والسعودية، ظل زهاء خمسة عشر عاماً وحتى إنهاء عمله في وفد السعودية يكاد لا يغيب عن دورة للجمعية العامة فضلاً عن جلسات مجلس الأمن ووكالات الأمم المتحدة ولجانها المعنية.  وقد لاقى من النجاح ما جعله يُعرف بـ"خطيب العرب" في الأمم المتحدة أو "فيشنسكي العرب" فيها، بل إن فيشنسكي، وهو ممثل الاتحاد السوفيتي الأشهر في الأمم المتحدة، فَضَّل الشقيري عليه فوصف نفسه بأنه "شقيري الاتحاد السوفييتي".

 

          وإذا كانت كل دولة توفد-أو هكذا يفترض- خيرة من لديها ممن تنطبق عليهم المواصفات التي أشرنا إليها سابقاً، فلماذا بزّ الشقيري هؤلاء جميعاً، حتى أننا لم نعرف أو نسمع إلى يومنا هذا، بعد مضيّ نحو نصف قرن على مغادرة الشقيري  للأمم المتحدة أنّ مندوباً ما قد انتَزع منه هذا اللقب.

 

إن معظم الذين أشاروا إلى ذلك في كتاباتهم عن الشقيري، وقفوا عند ذكر قدرته القانونية الخطابية ومعرفته بقضيته ومتانة لغته الإنجليزية ونحو ذلك. وهذا صحيح؛  إلا أن كل هذا لا يعطي الصورة الكاملة للشقيري كأكفأ مندوب عرفته الأمم المتحدة في تاريخها ما لم نذهب عميقاً لنسبر أغوار قدراته الذاتية في هذه الساحة. وهنا نسجل ما يأتي:

 

1-  الشقيري ابن القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وقد أحسّ بها في طفولته، نظرياً في مجالس والده، وعملياً حين جرى الحديث، وهو بعد فتى، عن أول مهاجرين قادمين إلى مدينة عكا، وتعامل معها وطنياً وقانونياً منذ سنة 1928 أي على أعتاب ثورة البراق 1929.

 

2-  تمرّس في كتابة المذكرات القانونية للوفود الفلسطينية، وَمَثُل مرافعاً عن القضية أمام العديد من اللجان البريطانية والدولية، فاطلع على أساليب العدو وأعضاء اللجان، وهضمها فكوّن أسلوبه المتميز.

 

3-  الشقيري لم يكن محامي قضية، ولامحامي قضيته فحسب، بل كان مناضلاً فلسطينياً وعربياً في الجبهة القانونية للقضية، وهذا ما يمنحه جرأة وحماسة استثنائية.

 

4-  المناضل يعمل دائماً على تطوير أساليبه ووسائله، وهي هنا تشمل فضلاً عن الثقافة القانونية والثقافة السياسية وعلومهما، العلوم التاريخية لشعبه وأمته كما للعدو وأنصاره، بحثاً عن مَواطن وبواطن الزيف والضعف والكيل بمكاييل مختلفة، حتى يدين أو يَدحض حجة العدو من فمه هو..وهذا ما برع فيه الشقيري. ويجد القارئ في النتاج الفكري والسياسي للشقيري،  من الوقائع ما يدل على غنى وتنّوع باهر أذهل قاعات الأمم المتحدة وأفحم أعداءه فيها وفي خارجها.

 

5-  فن الخطابة لديه كان مختلفاً تماماً عن سواه فأساسه الفقه القانوني، موشّى ببيان إنجليزي رفيع، مرصّع باقتباسات ومقاربات من حقائق التاريخ ذات العلاقة، بعيداً عن الحشو واللغو، يقدمها بصوت جهوري قوي الجرس، جليّ النبرات، متنوع والإيقاعات، لا يقع في دائرة "التهريج" أبداً، ويصل إلى المخاطب مباشرة.

 

6-    كان الشقيري مُسْهباً لكنه إسهاب ثري محبب، لا يبعث في المخاطبين مللاً ولا يدفعهم لمغادرة القاعة.

 

7-  إن معظم الخطباء الذين شُهروا في الأمم المتحدة لم يشهروا لقوة حجتهم أو قدرتهم على الإقناع، بل لحجم دولهم وتأثيرها بمختلف السبل-على قرارات الأعضاء، وما يمارسونه في نيويورك أو في عواصمهم من ضغوط لكي ينتزعوا أصواتهم. أما الشقيري فكان هو في معظم الحالات في الميدان وحده، كان هو "الوفد الكامل" أو على الأقل "الفريق الفاعل" في الوفد الذي يمثله على مستوى:

 

    1-إعداد المعلومات والوثائق والبيانات وتجهيز الخطابات.

               2- التجوال الذي لا يتوقف على الوفود الصديقة، وأحياناً غير الصديقة، في محاولة لكسب           تأييدهم، لا سيما وأنه افتقر في حالات عديدة لدعم بعض الوفود الشقيقة.. إذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.

 

       لقد كان في واقع الحال وكما أسلفنا " وفداً في فرد"، وغالباً ما كان في الجبهة وحيداً فريداً. وفي "غابة الأمم المتحدة" المكتظة بأشرس الأعداء الذين كانوا يتربصون به إما ذئاباً زرق الأنياب أو ثعالب ماكرة، أثبت بجدارة أنه كان "أسداً كاسراً".

 

وإذا كانت الأمم المتحدة ساحة للسياسة الدبلوماسية، فإن الميزة الأهم للشقيري أنه اقتحمها وجمع فيها بين النقيضين "الدبلوماسية والثورية"، في حين كانت فيه الثورية بتجلياتها (تابو) في ردهات المنظمة، لكن الشقيري كان أول من أدخلها وفرض نفسه دبلوماسياً ثائراً، ولعل هذا الوصف أهم بكثير من وصفه بخطيب أو فيشنسكي العرب، ذلك أن فيشنسكي-مع كل قدراته- كان يقف من ورائه الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية (الاشتراكية)، أما الشقيري فقد كان مثل السيف فرداً..سوى الروم خلف ظهره روم، والأكثر مأساوية أنّ الشقيري "اللاجئ الفلسطيني" لم يكن صاحب مقعد أصيل في الأمم المتحدة، بل كان "لاجئاً في الأمم المتحدة"، مقيماً في مقعد غيره.. وإن كان المقعد عربياً. ومع هذا فقد مارس دوره بكل ما يختزن من كبرياء الانتماء للأمة، حتى إنه حمَّل المقعد وأصحابه أحياناً فوق ما يحتملون..

 

لقد مورست "الدبلوماسية الثائرة" بعد الشقيري في قاعة الجمعية العامة، ولكن في مناسبات محددة من أهمها دورة عام 1960 الشهيرة حين دق خروتشوف حذاءه على طاولتها، أو خلال خطب كاسترو وعدد قليل من رؤساء الدول، لكنهم كانوا يقولون كلمتهم ويغادرون، أما الشقيري فكانت هذه سمته الأساس، بل إذا دُرست سيرته في الأمم المتحدة على مستوى الدبلوماسية الدولية، وأنا على يقين أنها ستُدرس ذات يوم، وعلى الأرجح (وللأسف) من قبل غير العرب، فإنها مدرسة كاملة، وسيحمل أحد فصولها عنوان: الشقيري في الأمم المتحدة..الدبلوماسي الثائر.

 

لكن الشقيري برغم كل هذا الإبداع عاد من الأمم المتحدة بعد 15 عاماً ليقول: قادتني خبرتي الطويلة في الأمم المتحدة إلى اليقين بأن القضية الفلسطينية بالذات ليس لها حل دبلوماسي أو سياسي في داخل الأمم المتحدة أو خارجها، وأن الحل هو هنا في وطننا العربي بوحدة الموقف ومقاومة الاحتلال بالقتال وبالكفاح وبالسلاح.

 

وتلك هي العبرة لمن شاء أن يعتبر.

 


هناك تعليق واحد:

  1. صدق الشقيري ... لكنه ان علم مدى الشق الموجود فالصف الفلسطيني الان لبدل اقواله و قال: بأن القضية الفلسطينية بالذات ليس لها حل دبلوماسي أو سياسي في داخل الأمم المتحدة أو خارجها، او في مقر الجامعة العربيه او خارجها ... و لكن الحل في انشاء صفوف محو الفرقه من ادمغة المرابط الفلسطيني و اخاه ياكلان تحت سقف بيت واحد و يأكلان من طبق واحد و يقصفان من مدفعية واحده و لكنهما ابعد ما يكونا عن فهم رابطة الدم و الاخوة و العقيده ووحدة الموقف و المصير ... الله يهدي شعبنا الى ما فيه وحدة صفنا ... ثم ان تحققت الوحده في الصف الداخلي ستتحقق الوحده فالامة و هذا يشبه شفاء الجرح في الجسد حيث انه يبرأ من الداخل انتشارا للخارج

    ردحذف